فإن قيل: فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة، تباين جميع ديوانه في البلاغة، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه، ولا يعرف سبب ذلك البيت، ولا تلك القطعة في التفصيل، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط، لم يجد إلى ذلك سبيلا، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة، لأنه يتفق من المتأخر فيها - فهلا قلتم: إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغه القصوى، كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة؟ وهلا قلتم: إن القرآن من هذا الباب؟ فالجواب: أنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة. وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة، وخطبهم منقولة، ورسائلهم مأثورة، وبلاغاتهم مروية، وحكمهم مشهورة، وكذلك أهل الكهانة والبلاغة، مثل قُسّ بن ساعدة، وسحبان وائل، ومثل شق، وسطيح، وغيرهم - كلامهم معروف عندنا، وموضوع بين أيدينا، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ، ولا خطابة خطيب، ولا براعة شاعر مفلق، ولا كتابة كاتب مدقق.
فلما لم نجد في شئ من ذلك ما يدانى القرآن في البلاغة، أو يشاكله في الإعجاز، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة، وتقدم من التقريع في المجازاة الامد المديد، وثبت له وحده خاصة قصب السبق، والاستيلاء على الأمد، وعجز الكل عنه، ووقفوا دونه حيارى، يعرفون عجزهم، وإن جهل قوم سببه، ويعلمون نقصهم، وإن أغفل قوم وجهه - رأينا أنه ناقض للعادة، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجِبِلّة. وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات، وعلى أن من ظهرت عليه، ووقعت موقع الهداية إليه، صادق فيما يدعيه من نبوته، ومحق في قوله، ومصيب في هديه، قد شهدت له الحجة البالغة، والكلمة التامة، والبرهان النير، والدليل البين.
فصل في حقيقة المعجز
معنى قولنا "إن القرآن معجز" على أصولنا: أنه لا يَقدر العبادُ عليه.
وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لا يصح دخوله تحت قدرة العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام، فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة، وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.
فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز، وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله، لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز، وقد أجرى [ الله ] العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم، وأن لا يقدروا عليه.
ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه.
فلما لم يشتغلوا بذلك، عُلم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه.
وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع، لا يحتاج في مثله إلى توقيف، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجرى في الخطاب، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه [ وطلبوه ]؛ وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي، ثم وقفوا على حسن ذلك وقدروا عليه، بتوفيق الله عز وجل، وهو الذي جمع خواطرهم عليه، وهداهم له وهيأ دواعيهم إليه، ولكنه أقدرهم على حد محدود، وغاية في العرف مضروبة، لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا، ودل على عظم شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف، وعلى ما وصفنا من النظم، من غير توقيف ولا اقتفاء أثر، ولا تحد إليه ولا تقريع.
فلو كان هذا من ذلك القبيل، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه - لم تَزُلْ أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم؛ فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت، وكان يدعوا إليه سنين كثيرة، وقال عز من قائل: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير }.
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه.
وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها من الكلام البليغ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن، وهذا في البلغاء منهم، دون المتأخرين في الصنعة.
والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن.
وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة - لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال.
ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.
وأما نظم القرآن فقد قال أصحابنا [ فيه ]: إن الله تعالى يقدر على نظم [ هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه، كما يقدر على مثله.
وأما بلوغ بعض ] نظم القرآن الرتبة التي لا مزيد عليها، فقد قال مخالفونا: إن هذا غير ممتنع، لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة للمعاني البديعة، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية، لأنه عندهم - وإن زاد على ما في العادة - فإن الزائد عليها وإن تفاوت فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه.
والذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال: إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله.
وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه.
فصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأمور تتصل بالإعجاز
إن قال قائل: إذا كان النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أفصح العرب - وقد قال هذا في
حديث مشهور، وهو صادق في قوله - فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟
قيل: قد علمنا أنه لم يتحدهم إلى مثل قوله وفصاحته. والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء، كقدر ما بين شعر الشاعرين، وكلام الخطيبين في الفصاحة، وذلك مما لا يقع به الإعجاز.
وقد بينا قبل هذا: أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور، وبين نظم القرآن تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله عز وجل و [ بين ] كلام الناس، فلا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png معجز وإن كان دون القرآن في الإعجاز.
فإن قيل: لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على
ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن؟
[322] وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت
[323] في أنه هل هو من القرآن أم لا؟
[ قيل: هذا من تخليط الملحدين، لأن عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن ].
ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط.
وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه، لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه.
على أن الذي يروونه خبر واحد، لا يسكن إليه في مثل هذا، ولا يعمل عليه.
ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه، كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.
وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما.
ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى، وما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه.
ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا؛ وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه. وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الإجماع المقرر والاتفاق المعروف.
ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه، لأنه خالف في النظم والترتيب، فلم يثبتهما في آخر القرآن، والاختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل؛ ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن؛ فمنهم من قال: قوله: { اقرأ باسم ربك }. ومنهم من قال: { يا أيها المدثر }. ومنهم من قال: فاتحة الكتاب.
واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل؛ فقال
ابن عباس: { إذا جاء نصر الله }. وقالت
عائشة: سورة المائدة. وقال
البراء بن عازب: آخر ما أنزل سورة براءة. وقال
سعيد بن جبير: آخر ما أنزل قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله }. وقال السدي: آخر ما أنزل { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت }.
ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
ولو كان القرآن من كلامه، لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما رجل واحد، وكانوا يعارضونه، لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت التفاوت الكثير، ولا يخفى كلامه من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لأنه خارج من جميع ذلك.
فإن قيل: لو كان على ما ادعيتم، لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره؟
قيل: معرفة الفصل بين وزن الشعر [ أو غيره من أوزان الكلام لا يقع ضرورة، ويحتاج في معرفة ذوق الشعر ] ووزنه، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان يحتاج إلى نظر وتأمل، وفكر وروية واكتساب. وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة. إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.
فإن قيل: لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟
قيل: قد يثبت الشئ دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.
فأما المخالفون، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله، لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عز وجل في كونه معجزا، لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة، وكان متعذرا على غيره، لفقد علمه بكيفية النظم.
وليس القوم بعاجزين عن الكلام، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا: فَقْدُ العلم بكيفية النظم، وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه.
والمُفْحَمُ قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها، وكيفية التركيب، وهو لا يقدر على نظم الشعر.
وقد يعلم الشاعران وجوه الفصاحة، وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية، وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة.
وقد يطّرد في شعر المبتدي والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر، مما لا يتفق للشاعر المتقدم.
والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع، وتوفيق من الأصل.
وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ما لا يتفق للآخر.
وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون، مع العلم بكيفية النظم، وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة، مع العلم بكيفية الإصابة.
وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه، لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها، وإن كان كذلك عُلم أن هذا لا يرجع إلى قدره من العلم، ولسنا نقول إنه يستغنى عن العلم في النظم، بل يكفي علم به في الجملة، ثم يقف الأمر على القدرة.
وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذر، والعلم حاصل