-
الحر بن يزيد يقبل بخيله
وأقبل الحسين، حتى نزل شراف، وأمر فتيانه فاستقوا من الماء، ثم ساروا صدر يومهم. فقال رجل: « الله أكبر. »
فقال الحسين: « الله أكبر، ممّ كبّرت؟ »
قال: « رأيت النخل. »
فقال رجلان أسديّان كانا معه: « إنّ هذا مكان ما رأينا به نخلا قطّ. »
قال الحسين: « فما تريانه رأى. »
فقالا: « نراه والله رأى هوادي الخيل. »
فقال: « وأنا، والله، أرى ذلك. »
فقال الحسين: « أما لنا ملجأ نعدل إليه، نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ »
قال: فقلنا له: « نعم، هذا ذو حسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك. »
فأخذ إليه، ومال أصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيّنّاها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطريق، عدلوا، كأنّ أسنّتهم اليعاسيب، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فسبقناهم، فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهم ألف رجل، مع الحرّ بن يزيد التميمي.
فأقبل حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه في حرّ الظهيرة، فأمر الحسين أن يسقى القوم، فقام فتيانه يسقون الخيل بالأتوار والطساس حتى أرووها.
فكان سبب تقدّم الحرّ في ألف رجل أنّ عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شرطه، على أن ينزل القادسيّة، وينظّم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدّم الحرّ هذا بين يديه في ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يرد عليه الخبر.
فحضرت الصلاة، فأذّن مؤذّن الحسين، ثم أقام. فخرج الحسين في إزار ونعلين، وقال:
« أيّها الناس، معذرة إلى الله، وإليكم. إني لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت عليّ رسائلكم أن اقدم علينا، فإنّه ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم. »
فسكتوا عنه.
فقال الحسين للحرّ: « أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ »
قال: « لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. »
فصلّى بهم الحسين، وانصرف الحرّ إلى مكانه، وأخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته، وجلس في ظلّها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيّأوا للرحيل، ففعلوا. ثم إنّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلّى بالقوم، ثم سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريبا من مقالته الأولى.
فقال الحرّ: « إنّا، والله، لا ندري هذه الكتب، والرسل التي تذكر. »
فدعا الحسين بخرجين مملوّين كتبا فنشرها بين أيديهم. فقال له الحرّ: « لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنما أمرنا، إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. »
فقال له الحسين: « الموت أدنى إليك من ذلك. »
ثم قال لأصحابه: « انصرفوا بنا. »
فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف.
فقال الحسين للحرّ: « ثكلتك أمّك، ما تريد؟ »
قال: « أما والله، لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمّه، كائنا من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمّك، إلّا بأحسن ما نقدر عليه. »
فقال له الحسين: « فما تريد؟ »
قال: « أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. »
فقال له الحسين: « إذا لا أتبعك. »
فقال له الحرّ: « إذا لا أدعك. »
فترادّا القول: فلمّا طال الكلام، قال الحرّ: « إني لم أومر بقتالك، إنّما أمرت ألّا أفارقك حتى تقدم الكوفة. فإذا أتيت حيطانها، فخذ طريقا لا يدخلك المدينة، ولا يؤدّيك إليها، ولا يردّك عنها يكون بيني وبينك نصفا، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أردت، أو إلى ابن زياد، إن أردت، فلعلّ الله يأتى بأمر يرزقني فيه العافية أن أبتلى بشيء من أمرك. »
فتراضيا، وتياسر الحرّ عن طريق القادسيّة، وسايره الحسين. وأخذ الحسين يخطب القوم ويذكّرهم الله، ويدلّهم على نفسه ومكانه عن النبوّة والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة.
فقال له الحرّ، وهو يسايره: « يا حسين! أذكّرك الله في نفسك، فو الله، لئن قاتلت لتقتلنّ. »
فقال له الحسين: « أبالموت تخوّفني؟ » وأنشده أبياتا، وهي أبيات تمثّل بها:
سأمضى، فما بالموت عار على الفتى ** إذا ما نوى حقّا، وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ** وفارق شرّا أن يعيش ويرغما
فكان يسير الحرّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفرسان، فعدلوا إلى الحسين، فسلّموا عليه، فمنعهم الحرّ أن يسيروا معه.
فقال الحسين: « ما لك تمنعهم؟ »
فقال الحرّ: « هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أهل الكوفة. »
قال الحسين: « هم بمنزلة من جاء معي، فإنّهم أنصاري وأعواني، وقد أعطيتني ألّا تعرض لي بشيء، حتى آتى الكوفة. فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك، وإلّا ناجزتك. »
قال: وكفّ عنهم الحرّ.
فقال الحسين للقوم: « أخبرونى خبر الناس وراءكم. »
فقالوا: « أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، واستميل ودّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألّب عليك، وأمّا سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك. »
قال: « فخبّروني عن رسولي إليكم. »
فقالوا: « من هو؟ »
قال: « قيس بن مسهر الصيداوي. »
فقالوا: « نعم، أخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك ولعن أبيك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك، وأخبرهم بمقدمك، فأمر به ابن زياد، فألقى من طمار القصر، فمات. »
فتغرغرت عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
-
ما قاله الطرماح بن عدي للحسين
فقالوا له بعد ما دنوا منه: « والله، إنّا لننتظر، فما نرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين نراهم ملازميك، لكفى بهم، فكيف وقد رأينا قبل خروجنا من الكوفة ما لم نر قطّ مثلهم ناسا في صعيد واحد عرضوا ليسرّحوا إليك، فننشدك الله إن قدرت ألّا تقدّم شبرا إلّا فعلت. فهاهنا بلد منعك الله به، حتى ترى رأيك، فسر بنا حتى ننزلك جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا به والله من ملوك غسّان، وحمير، ومن النعمان، ومن الأسود والأحمر، والله ما دخل علينا ذلّ قطّ، ثم تبعث الرجال إلى من ينزل أجأ، وسلمى من طيّء، فيأتيك الرجال، وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يديك بالسيوف. »
فقال الحسين: « جزاك الله وقومك خيرا. إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم من أهل الكوفة قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في العاقبة. »
فودّعوه وقالوا: « قد حملنا ميرة من الكوفة لأهلينا، فنحن نحملها إليهم، ونعود إليك. »
نزول الحسين بنينوى وقدوم راكب بكتاب من ابن زياد
وسار الحسين، فجعل يتياسر، فيأتيه الحرّ بن يزيد، فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّا شديدا امتنعوا عليه. فلم يزالوا كذلك، حتى انتهوا إلى المكان الذي نزل به الحسين http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png فإذا راكب على نجيب له، وعليه السلاح متنكّبا قوسه، مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى إليهم، سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه:
« أما بعد، فجعجع بالحسين وأصحابه حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك حتى تردّه بإنفاذ أمري، والسلام. »
فلما قرأه الحرّ، قال: « هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرنى أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتينى كتابه، وهذا رسوله وقد أمرنى ألّا يفارقني حتى أنفذ أمره. »
وأخذ الحرّ يريدهم على النّزل هناك على غير ماء، ولا في قرية، فقالوا: « دعنا ننزل في هذه القرية. - يعنون الغاضريّة - أو تلك - يعنون نينوى - أو تلك، أو تلك. »
فقال: « لا والله، ما أستطيع هذا. أما ترون الرجل قد بعثه عينا عليّ. »
فقال زهير بن القين وكان مع الحسين: « يا ابن بنت رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى، من لا قبل لنا به. »
فقال الحسين: « لا أبدأهم بالقتال. »
فقال زهير: « فسر بنا إلى هذه القرية القريبة حتى ننزلها، فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم اليوم أهون من قتال من يجيء بعدهم ».
فقال الحسين: « وأيّة قرية هي؟ »
قال: « العقر. »
فقال الحسين، http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png: « اللهمّ أعوذ بك من العقر! »
ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.
عمر بن سعد والخيار الصعب
وكان عبيد الله بن زياد قد ولّى عمر بن سعد بن أبي وقّاص الريّ، وكتب عهده عليها، وجهّز معه أربعة آلاف، لأنّ الديلم كانوا غلبوا على دستبى، فخرج عمر بن سعد، وكان قد عسكر بحمّام أعين.
فلما كان من أمر الحسين ما كان، كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن: « سر إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سرت إلى عملك. »
فكتب إليه عمر بن سعد: « إن رأيت أن تعفيني، فعلت. »
فقال عبيد الله: « نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا. »
فاستعظم عمر بن سعد أمر الحسين، وكان يستشير نصحاءه، فلا يشير عليه أحد به، ثم حلا في قلبه الإمارة، فاستجاب وأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين في غد يوم نزل فيه الحسين بالمكان الذي ذكرناه.
فبعث عمر بن سعد من يسأله: ما الذي جاء به. فجاء الرسول حتى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر.
فقال الحسين: « كتب إليّ أهل مصركم أن اقدم، فأمّا إذا كرهتموني، فأنا أنصرف عنهم. »
فانصرف إلى عمر بجوابه. فقال عمر بن سعد! « إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه. » وكتب إلى عبيد الله بذلك.
اشتداد العطش على الحسين وأصحابه
واشتدّ على الحسين وأصحابه العطش، فدعا العبّاس بن عليّ، فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة. فدنوا من الماء ليلا.
فقال عمرو بن الحجاج الزبيديّ، وكان قد أرسله عمر بن سعد في خمسمائة على الشريعة يمنعون الحسين وأصحابه من الماء بكتاب ورد عليه من عبيد الله: « من الرجل، وما جاء بك؟ »
قال: « جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلّأتمونا عنه. »
فقال: « اشرب هنّأك الله. »
قال: « لا والله، ما أشرب والحسين ومن ترى من أصحابه عطاش. »
فقال: « لا سبيل إلى سقى هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء. »
فلما دنا أصحابه قال لرجّالته: « املأوا قربكم. » وشدّ على القوم مع أصحابه فملأوا قربهم، وثار بهم عمرو بن الحجاج، فقاتلهم العبّاس وأصحابه، حتى انصرف أصحاب القرب بالقرب، فأدخلوها على الحسين وأصحابه.
التقاء بين الحسين وعمر بن سعد
وبعث الحسين إلى عمر أن: « القني الليلة بين عسكري وعسكرك. »
فخرج إليه عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين في مثل ذلك. فلما التقيا، أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، فانكشفتا عنهما حيث لا تسمع أصواتهما، فتكلّما، فأطالا، حتى ذهب هزيع من الليل. ثم انصرف كلّ واحد إلى أصحابه، وتحدّث الناس بينهم بالظنون ولا يدرون حقيقة شيء. ثم التقيا بعد ذلك مرارا ثلاثا وأربعا.
كتاب ابن سعد إلى ابن زياد في ما دار بينه وبين الحسين
فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: « أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا الحسين قد أعطاني: أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه. أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من الثغور شئنا، فيكون رجلا من المسلمين: له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتى أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده في يده، فيرى فيه رأيه، وفي هذا لكم رضى، وللأمّة صلاح. »
فلما قرأ عبيد الله الكتاب، قال: « هذا كتاب ناصح لأميره، وشفيق على قومه، قد قبلت. »
ما أشار به شمر على ابن زياد
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن، فقال: « تقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟ فإنّما وافى ليزيل سلطانك. والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك، فإن عاقبت، فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت، كان ذلك لك. ولقد بلغني أنّ الحسين وعمر بن سعد يجلسان، فيحدّثان عامّة الليل. »
فقال عبيد الله بن زياد: « نعم ما رأيت، الرأي رأيك. »
ثم قال ابن زياد: « اخرج أنت بجواب كتاب عمر بن سعد. فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا، فليبعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا، فقاتلوهم. فإن فعل عمر بن سعد، فاسمع منه وأطع، وإن أبى، فأنت الأمير على الناس، وثب عليه، واضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه. »
جواب ابن زياد لكتاب ابن سعد
ثم كتب إلى عمر بن سعد:
« أمّا بعد، إني لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكفّ عنه، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له شافعا عندي. انظر: إن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم، وإن أبوا، فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنّهم لذلك مستحقّون. فإن أنت فعلت جزيناك خيرا، لأنك السامع المطيع، وإن أنت أبيت، فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر [ فإنّا قد أمرنا بأمرنا ]، والسلام. »
-
قدوم شمر بالكتاب
فقدم شمر بالكتاب، فقرأه عمر، وقال لشمر: « ما لك ويلك! لا قرّب الله داراك! وقبّح الله ما قدمت به! إنّك أنت ثنّيته عمّا كتبت به إليه، وقد - والله - أفسدت علينا أمورا رجونا معه الصلاح، والله يا شمر! لا يستسلم حسين، إنّ نفسه نفس أبيّة. »
فقال له شمر: « أخبرني ما أنت صانع، تمضى لأمر أميرك، وإلّا فخلّ بيني وبين العسكر. »
قال: « لا، ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك. »
قال: « فدونك! »
زحف ابن سعد نحو الحسين
فركب عمر بن سعد في الناس، ثم زحف نحوهم، والحسين جالس أمام بيته محتب بسيفه.
فقال له العبّاس بن عليّ: « يا أخي أتاك القوم، أما تراهم؟ »
وكان الحسين قد خفق برأسه [ على ركبتيه، ] فنهض ثم قال: « يا عبّاس اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم. »
فأتاهم العبّاس، واستقبلهم في نحو عشرين فارسا، فقال لهم: « ما جاء بكم؟ وما بدا لكم؟ »
فقالوا: « إنّ أمر الأمير قد جاء بكيت وكيت. »
قال: « فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله، فأعرض عليه ما ذكرتم. »
فانصرف العبّاس يركض نحو الحسين، يخبره الخبر، وترك أصحابه يخاطبون القوم. ثم أقبل العبّاس يركض، فقال:
« إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتى ننظر في هذا الأمر، فإنّ هذا الذي جئتم به، لم يجر [ بينكم وبينه ] فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا، فإمّا رضيناه فاستسلمنا، وإمّا كرهناه فرددنا. »
وكان الحسين قال للعبّاس: « ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّى لربّنا ونستغفره، ونوصى إلى أهلنا. » فجاءهم رسول عمر، فقام بحيث يسمعون الصوت، وقال: « قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا، وإن أبيتم، فلسنا تاركيكم. »
كلام الحسين لأصحابه
فجمع الحسين أصحابه، وحمد الله، وأثنى عليه، ودعا دعاء كثيرا، وقال:
« أمّا بعد، فإني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي.
فجزاكم الله عني خيرا، وإني لا أظنّ يومنا من هؤلاء إلّا غدا، وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حلّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا، ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا بسوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني، لهوا عن طلب غيري. »
فقال له إخوته: « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، قبّح الله العيش بعدك. » وتكلّم أهله كلّهم مثل ذلك.
ثم قام مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: « نحن نخلّي عنك، ولم نعذر فيك! والله، لو لم يكن معي سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت، ويعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png والله، لو علمت أنّي أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحرق، ثم يذرى بي، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك. فكيف وإنّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا. »
ثم قام زهير بن القين، فقال مثل ذلك، وتكلّم جماعة أصحابه بمثل ذلك، وأشبه كلام بعضهم كلام بعض، وكانوا اثنين وثلاثين رجلا من الفرسان وأربعين راجلا.
ثم أوصى الحسين، وقال لأخته: « يا أخيّة، أقسم عليك، فبرّى قسمي، لا تشقّى عليّ جيبا، ولا تخمشي وجها، ولا تدعى عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت. »
فبكت، فارتفعت الأصوات من جهة النساء، ولهنّ الرقّة والجزع.
وقالت أخته: « بأبي وأمي أبا عبد الله! استقتلت؟ »
فردّد غصّته، ثم قال: « لو ترك القطا لنام. »
فقالت: « يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أروع لقلبي، وأعظم لبلائى. »
ثم لطمت وجهها وخرّت مغشيا عليها، فصبّ الحسين على وجهها الماء، وعزّاها بكلام طويل.
يوم عاشوراء
وحرسهم بالليل أصحاب عمر بن سعد. فلما أصبحوا - وذلك يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت، وكان يوم عاشوراء - خرج الحسين، فعبّى أصحابه، وأمر بأطناب البيوت، فقرنت حتى دخل بعضها في بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، وكان من ورائهم موضع منخفض كأنّها ساقية، فأمر، فحفروه من الليل في ساعة، وجعلوه كالخندق، وطرح ذلك الحطب والقصب فيه، وألقى فيه النار، وقال: « لا نؤتى من ورائنا. » قال الشعبي: ففعلوا ذلك، وكان لهم نافعا.
وأمر الحسين بمسك، فميث في جفنة عظيمة، واطّلى، وركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا.
جاء الحر تائبا
فحرّك الحرّ دابّته، حتى استأمن إلى الحسين، وقال له: « بأبي أنت وأمي، ما ظننت الأمر ينتهى بهؤلاء القوم إلى ما أرى، وظننت أنّهم سيقبلون منك إحدى الخصال التي عرضتها عليهم، فقلت في نفسي: لا أبالى أن أطيع القوم في بعض أمورهم، وأمّا الآن فإني جئت تائبا ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أترى لي ذلك توبة؟ »
قال: « نعم. يتوب الله عليك ويغفر لك. انزل! »
قال: « أنا فارسا خير لك مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. »
ثم بارز، فقتل واحدا بعد آخر. فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد.
فقام عمرو بن الحجاج رافعا صوته: « يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ [ تقاتلون ] فرسان المصر، وقوما مستميتين. والله، لا يبرز لهم منكم أحد إلّا قتل، لا تبرزوا لهم! فإنّهم قليل، وقلّ ما يبقون، وقد جهدهم العطش. »
فقال عمر بن سعد: « صدقت. » وأرسل في الناس، فعزم عليهم أن: « لا يبارز منكم رجل رجلا منهم. »
فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارسا.
فقال عمر: « ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنبل. »
فتقدّموا، فلم يلبّثوهم أن عقروا خيلهم، فصاروا كلّهم رجّالة. وقاتلوا قتالا لم ير أعظم منه ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم أو الاثنان تبيّن ذلك عليهم، وإذا قتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيّن عليهم.
ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يديه كلّ من استهدف للنبل، فرمى يمينا وشمالا، حتى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثم يقاتلون حتى يقتلوا.
فكان أوّل من قتل من بني أبي طالب عليّ الأكبر بن الحسين بن عليّ، ثم عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثم محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم جعفر بن عقيل بن أبي طالب.
قال: ثم رأينا غلاما كان وجهه شقّة قمر، في يده سيف، وعليه قميص ونعلان، وقد انقطع شسع أحدهما. فحمل عليه رجل، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع الغلام لوجهه، وصاح: « يا عمّاه! » فجلّى الحسين كما يجلّى الصقر، ثم شدّ على الرجل بسيفه، فاتّقاه فضرب ساعده، فأطنّها من المرفق وتنحّى عن الغلام، وانجلت الغبرة، فرأيت الحسين قائما على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله الأرض، والحسين يقول: « بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم جدّك. » ثم قال: « عزّ، والله، على عمّك أن تدعوه، فلا يجيبك، أو يجيبك، ثم لا ينفعك. » ثم احتمله، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره.
قال: فقلت في نفسي: ما يصنع به؟ فجاء به حتى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين والقتلى حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي: القاسم بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - صلوات الله على جميعهم.
ومكث الحسين طويلا من النهار، وكلما انتهى إليه رجل انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله، حتى أتاه مالك بن النسير، فضربه على رأسه بالسيف، فقطع برنس خزّ كان عليه، وأدمى رأسه، فألقى ذلك البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها واعتمّ، وكان قد أعيا وبلّد، ولم يبق له قوّة، وجهده العطش. فدنا إلى الماء ليشربه، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه يتلقّى الدم من فيه، فيرمى به إلى السماء. ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يده وقال:
« اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر منهم أحدا. » ثم أقبل إليه شمر بن ذي الجوشن في نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة، وطلب منزل الحسين الذي فيه ثقله. فمشى نحوهم، فحالوا بينه وبين رحله.
فقال الحسين: « ويلكم! إن لم يكن لكم دين، فكونوا في دنياكم أحرارا، امنعوا أهلى من طغامكم وجهّالكم. »
قال ابن ذي الجوشن: « ذلك لك. » وأقدم عليه بالرجّالة.
قال عبد الله بن عماد: فلقد رأيته وهو يحمل على من في يمينه فيطردهم، وعلى من في شماله فيطردهم وعليه قميص خزّ وهو معتمّ، فو الله، ما رأيت مكثورا قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا، ولا أجرأ مقدما. والله، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. فكأني بزينب أخته وهو على تلك الحال، قد خرجت وأنا أنظر إلى قرطها يجول بين أذنها وعاتقها وهي تقول: « ليت السماء انطبقت على الأرض. » وكان قد دنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت: « يا بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ » وكأنّى أنظر إلى دموع [ عمر بن ] سعد تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها.
فنادى في الناس شمر: « ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، ثكلتكم أمّهاتكم! »
فحمل عليه من كل جانب، وضرب على كتفه وطعن.
فقال شمر لخولي بن يزيد الأصبحى: « انزل، فاحتزّ رأسه. » فضعف وأرعد.
فقال له سنان بن أنس وهو الذي طعنه: « فتّ الله عضديك! » فنزل، فذبحه وأخذ رأسه.
-
سلب الحسين وانتهاب نساءه
وسلب الحسين حتى سراويله، وترك مجرّدا، ومال الناس على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه، فيذهب به، حتى جاء عمر بن سعد، فقال: « لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض. » يعنى عليّ بن الحسين، وكان مريضا.
وقتل من أصحاب الحسين http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png اثنان وسبعون رجلا، وسرّح برأسه إلى بن زياد.
كلام دار بين علي بن الحسين وابن زياد
فحدّث حميد بن مسلم، قال: كنت واقفا عند ابن زياد حين عرض عليه عليّ بن الحسين عليهما السلام، فقال: « ما اسمك؟ »
قال: « عليّ بن الحسين. »
قال: « أولم يقتل الله عليّ بن الحسين؟ » فسكت.
فقال له ابن زياد: « ما لك لا تتكلّم؟ »
قال: « قد كان لي أخ يقال له: عليّ بن الحسين أيضا، [ فقتله الناس ]. »
فقال: « قد قتله الله. »
فسكت.
فقال ابن زياد: « ما لك لا تتكلّم؟ »
قال: الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله
قال: « أنت والله منهم، ويحكم، انظروا هذا قد أدرك والله إني لأحسبه رجلا. »
فكشف عنه بعض أصحاب ابن زياد، فقال: « نعم، قد أدرك »
فقال: « اقتله. »
فقال عليّ: « فوكّل بهؤلاء النسوة من يكون محرما لهنّ يسير معهنّ إن كنت مسلما. »
فقال ابن زياد: « دعوه، سر أنت معهنّ. » وبعث بهنّ معه إلى الشام.
ما قاله يزيد بعد تسلم كتب البشارة
فيقال: إنّ يزيد لمّا وردت عليه كتب البشارة، دمعت عينه وقال:
« كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أمّا إني لو كنت صاحبه لعفوت عنه. »
ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد، قال يزيد: نفلّق هاما من رجال أعزّة علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما
ثم جهّز النساء وعليّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشا حتى ردّهم إلى المدينة.
ذكر حيل ابن الزبير
كان ابن الزبير يظهر أنه عائذ بالبيت، ويبايع الناس سرّا. وبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأعطى الله عهدا: ليوثقنّ في سلسلة. فبعث بسلسلة من فضّة وعمرو بن العاص يومئذ عامل مكّة، وكان شديدا عليه، ولكنّه كان كثير المداراة رفيقا. فلما ورد البريد بالسلسلة رفق حتى ردّه ردّا جميلا. وخطب الناس، وعاب أهل الكوفة خاصّة، وأهل العراق عامّة بقتل الحسين، وبكى وقال:
« لقد كان لأبي عبد الله - رضي الله عنه - في ما جرى على أبيه وأخيه من هؤلاء القوم ناه، ولكنّه ما حمّ نازل. »
ثم عظّم ما جرى عليه واستفظعه، وقال في كلامه:
« لقد قتلوه كثيرا صيامه بالنهار، طويلا صلاته بالليل، ما كان يبدل بالقرآن غناء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد. » ي
عرّض بيزيد. فثار إليه أصحابه وقالوا له:
« أيّها الرجل! أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين أولى بهذا الأمر منك. »
فقال: « لا تعجلوا! »
وعلا أمره بمكّة، وكاتبه أهل المدينة وقالوا: « أمّا إذ هلك الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير. »
وبلغ ابن الزبير أنّ مروان تمثّل لمّا اجتاز به البريد ومعه سلسلة من فضة وجامعة يجعل فيها ابن الزبير:
فخذها، فليست للعزيز بخطّة ** وفيها مقال لامرئ متذلّل
أ عامر إنّ القوم ساموك خطّة ** وذلك في الجيران، غزلا بمغزل
أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا ** يقال له بالغرب أدبر وأقبل
وأرسل مروان ابنيه وقال: « اذهبا فتعرّضا لابن الزبير، ثم تمثّلا بهذه الأبيات إذا بلّغته الرسل الرسالة. » ففعلا، فلما تعرّضا لينشداه، بادر ابن الزبير وقال: « إى بنى مروان، قد سمعت ما قال أبو كما، فاذهبا، فأنشداه:
إني لمن نبعة صمّ مكاسرها ** إذا تناوحت القصباء والعشر
فلا ألين لغير الحقّ أسأله ** حتى يلين لضرس الماضغ الحجر»
عزل عمرو بن سعيد وتولية الوليد مكة
ثم إنّ يزيد اتّهم عمرو بن سعيد وظنّ أنه يقدر على أخذ ابن الزبير وليس يفعل، فعزله، وولّى الوليد بن عقبة. وخرج عمرو حتى قدم على يزيد، فرحّب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم عاتبه في أشياء كان يأمر بها في ابن الزبير فلا ينفذها. فقال:
« يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنّ جلّ وأهل مكّة قد كانوا مالوا إليه، وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا إليه سرّا وجهرا، ولم يكن معي جند أتقوّى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذر مني ويتحرّز، وكنت أنا أرفق به وأداريه لئلّا يستوحش، فإذا استمكنت منه وثبت عليه، مع أنى ضيّقت عليه، ومنعته من أشياء لو تمكّن منها كانت معونة له، وجعلت على مكّة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا لي اسمه، واسم أبيه، وما جاء فيه، وما الذي يريد. فمن كان من أصحابه أو ممّن اتّهمه، رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من أثره وعمله ما تعرف به مبالغتى في أمرك، ومناصحتى لك. » فعذره يزيد، وتلقاه بجميل، ولبث الوليد مدّة بمكّة، ثم عزله يزيد، وولّى عثمان بن محمد بن أبي سفيان. فكان حدثا، فلم يضبط الأمر، ولا كان له رأي.