الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم. و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع. و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب. و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي. نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب. و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا. و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له. و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها. فناسب أن يكون حدا عندهم، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة. و الوزن و القوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء. و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور. و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم. و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس. و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية. و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط. و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ. و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. قالوا: و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام. و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه. و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده. و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق. و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة و السماء فوقنا. و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال. و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. و هذه نبذة كافية و الله المعين. و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق: لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي: الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه