وما هجعت حتى رأته عيوننا ** وما زلن حتى آب بالدمع حشدا
لقد صبحتنا خيله ورجاله ** بأروع بذ الناس بأسًا وسوددا
نفى عن خراسان العدو كما نفى ** ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره ** إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامةٍ ** وأطلق بالعفو الأسير المقيدا
وأفشى بلا من مع العدل فيهم ** أيادي عرفٍ باقياتٍ وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم ** وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ** فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ** وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدًا بالفضل يحيى وخالد ** إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعةً ** ويسقي دم العاصي الحسام المهندا
أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ** وكانت لأهل الدين عزًا مؤبدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ** على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ** به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع ** بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلًا وطئن جموعه ** قتيلًا ومأسورًا وفلًا مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعدما ** تحوب مخذ ولا يرى الموت مفردا
وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:
كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ ** وجود يديه بخل كل بخيل
قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم.
وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بن شرحبيل.
وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها شري بخراسان حمزة بن أترك السجستاني.
وفيها عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر:
وائل بعضها يقتل بعضًا ** لا يفل الحديد إلا الحديد
وقالت الفارعة أخت الوليد:
أيا شجر الخابور ما لك مورقًا ** كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ** ولا المال إلا من قنًا وسيوف
واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرًا لله على ما أبلاه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيًا، ثم انصرف على طريق البصرة.
وأما الواقدي فإنه قال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام
فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.
ذكر الخبر عما صار إليه أمرها
ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحًا ولا فرسًا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنةٍ ** فهذا أوان الشأم تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ ** عليها، خبت شهبانها وشرارها
رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ** وفيه تلاقى صدعها وانجبارها
رماها بميمون النقيبة ماجد ** تراضى به قحطانها ونزارها
تدلت عليهم صخرة برمكيةً ** دموغ لهام الناكبين انحدارها
غ*** تزجى غابة في رءوسها ** نجوم الثريا والمنايا ثمارها
إذا خفقت راياتها وتجرست ** بها الريح هال السامعين انبهارها
فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبنكم ** حجاكم طويلات المنى وقصارها
فإن أمير المؤمنين بنفسه ** أتاكم وإلا نفسه فخيارها
هو الملك المأمول للبر والتقى ** وصولاته لا يستطاع خطارها
وزير أمير المؤمنين وسيفه ** وصعدته والحرب تدمى شفارها
ومن تطو أشرار الخليفة دونه ** فعندك مأواها وأنت قرارها
وفيت فلم تغدر لقوم بذمةٍ ** ولم تدن من حالٍ ينالك عارها
طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ** من الدهر أعناق، فأنت جبارها
إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ** ملمي خطب لم ترعه كبارها
لقد نشأت بالشأم منك غمامة ** يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمها ** أتاها حياها، أو أتاها بوارها
فإن سالموا كانت غمامة نائلٍ ** وغيثٍ، وإلا فالدماء قطارها
أبوك أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ** أخو الجود والنعمى الكبار صغارها
كأين ترى في البرمكيين من ندىً ** ومن سابقاتٍ ما يشق غبارها
غدا بنجوم السعد من حل رحله ** إليك، وعزت عصبة أنت جارها
عذيري من الأقدار هل عزماتها ** مخلفتي عن جعفرٍ واقتسارها
فعين الأسى مطروفة لفراقه ** ونفسي إليه ما ينام ادكارها
وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكرامًا. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم. وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضيًا ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظمًا؛ إلا وازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا وما خلق الله أحدًا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛ فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.
وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة.
وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدًا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة.
وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنًا.
وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.
وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.
وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضًا عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة.
وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.
وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أيامًا، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوًا من أربعين يومًا فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدًا الأمين، وولاه العراقين.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوةً حصن الصفصاف، فقال مروان بن أبي حفصة:
إن أمير المؤمنين المصطفى ** قد ترك الصفصاف قاعًا صفصفا
وفيها غزا عبد الملك بن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
وفيها توفي الحسن بن قحطبة وحمزة بن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على جرجان.
وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلًا. وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح، ومن القواد علي بن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى إرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين.
وانصرف فيها يحيى بن خالد إلى مدينة السلام.
وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه رييني، وتلقب أغسطة.
وحج بالناس فيها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.