وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم وسبي أولادهم فإن هذا حكم الكافر وهم في الباطن كذلك وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه: من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم فإن الإرادة ههنا كونية بمعنى المشيئة وما شاء الله كان ولابد وما لم يشأ لم يكن
والصواب والله أعلم أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها والتعب العظيم في جمعها ومقاساة أنواع المشاق في ذلك فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده على تحصيلها والعذاب هنا هو الألم والمشقة والنصب كقوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png السفر قطعة من العذاب وقوله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أي يتألم ويتوجع لا أنه يعاقب بأعمالهم وهكذا من الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قال
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له
ومن أبلغ العذاب في الدنيا: تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب على أن أكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه وفي الترمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قال: يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك وهذا أيضا من أنواع العذاب وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه ومقاساة معاداتهم كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم وتعب دائم وحسرة لا تنقضي وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه كما في الحديث الصحيح عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام: محب الدنيا بشارب الخمر كلما ازداد شربا ازداد عطشا
وذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر فمالها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لاعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله تعالى برسوله حين شد الحجر على بطنه وقال الحسن أيضا: إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها وهذا باب واسع وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها ولما كانت هي أكبر هم من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها وشدة اجتهاده في طلبها وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فان في حب معشوقه وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه فهو مع معشوقه في أنكد عيش يختار الموت دونه فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء كثير الشركاء سريع الاستحالة عظيم الخيانة كثير التلون لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه ولا وصال يدوم له فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده ومصالح معاده
وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى ولم تكن محبته له لله تعالى ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة كما قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى
فإذا كان يوم المعاد ولى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا فكان معه: إما منعما أو معذبا ولهذا يمثل لصاحب المال ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول: أنا مالك أنا كنزك ويصفح له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما في النار وعذب كل منهما بصاحبه قال تعالى: الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [ الزخرف: 67 ] وأخبر سبحانه أن الذين توادوا في الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين
فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق: أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا وقال
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png المرء مع من أحب وقال الله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [ الفرقان: 29 ] وقال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزاواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهذوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لا تناصرون [ الصافات: 22 ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم وقال تعالى: وإذا النفوس زوعجت [ التكوير: 7 ] فقرن كل شكل إلى شكله وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر والفاجر مع الفاجر
والمقصود: أن من أحب شيئا سوى الله تعالى فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد فإنه إن فقده عذب بفواته وتألم على قدر تعلق قلبه به وإن وجده كان ما يحصل
له من الألم قبل حصوله ومن النكد في حال حصوله ومن الحسرة عليه بعد فوته أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة:
فما في الأرض أشقى من محب... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
فتسخن عينه عند التلاقي... وتسخن عينه عند الفراق
وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب ولهذا قال النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه. فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كان في طاعته فهو ذاكر له وإن لم يتحرك لسانه بالذكر وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذلك بوجه وهي نائلة كل ما عداه
الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولابد عكس ما أمله منه فلابد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها ويذم من حيث قدر أن يحمد وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب قال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عززا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ مريم: 81 ] وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ يس: 75 ] أي يغضبون لهم ويحاربون كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه وهم لا يستطيعون نصرهم بل هم كل عليهم وقال تعالى: وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شىء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ هود 101 ] أي غير تخسير وقال تعالى: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [ الشعراء 213 ] وقال تعالى: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة والحمد والثناء تارة فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه ويحصل له الخذلان والذم والمقصود: أن هذين الوجهين في المخلوق ضدهما في الخالق سبحانه فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله تعالى والاستعانة به وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به
الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم عزيز رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه من العبد ولا لدفع مضرة بل رحمة منه وإحسانا فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ الذاريات: 56 ] وقال تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ الإسراء: 111 ] فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل كما يولاى المخلوق المخلوق وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم وأما العباد فإنهم كما قال تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء [ محمد: 38 ] فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانفاعه به عاجلا أو آجلا ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء أو معاوضة بإحسانه أو لتوقع حمده وشكره وهو أيضا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضا محسن إلى نفسه بذلك وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته فهو غير ملوم في هذا القصد فإنه فقير محتاج وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه وقال تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم [ الإسراء: 7 ] وقال: وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [ البقرة: 272 ] وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد انتفاعه بك والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة بخلاف إرادة المخلوق نفعك فإنه قد يكون فيه مضرة عليك ولو بتحمل منته
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله تعالى أو تطلب منه نفعاأو دفعاأو تعلق قلبك به فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض وهو حال الولد مع والده والزوج مع زوجه والمملوك مع سيده والشريك مع شريكه فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم وأحسن إليهم لله تعالى وخاف الله تعالى فيهم ولم يخفهم مع الله تعالى ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم ولم يرجهم مع الله وأحبهم لحب الله ولم يحبهم مع الله تعالى كما قال أولياء الله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا [ الإنسان: 9 ]
الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه وهو الذي بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض لا منفعة فيه وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك
الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم منك وإن أضر ذلك بدينك ودنياك فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته ويريد دفع الضرر عنك فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره وجماع هذا أن تعلم: أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك قال الله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ التوبة: 51 ]
خاتمة لهذا الباب
لما كان الإنسان بل وكل حي متحرك بالإرادة لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة وله مراد مطلوب وطريق وسبب يوصل إليه معين عليه وتارة يكون السبب منه وتارة يكون من خارج منفصل عنه وتارة منه ومن الخارج فصار الحي مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده ويستعين بشيء ويعتمد عليه في حصول مراده
والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه والثاني: ما هو مراد لغيره والمستعان قسمان أحدهما ما هو مستعان بنفسه والثاني ما هو تبع له وآلة فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه ومراد لغيره ومستعان بنفسه ومستعان بكونه آلهة وتبعا للمستعان بنفسه
فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه وتنتهي إليه محبته ولابد من شيء يتوصل به ويستعين به في حصول مطلوبه والمستعان مدعو ومسئول والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان فمن اعتمد القلب عليه في رزقه ونصره ونفعه خضع له وذل له وانقاد له وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته وينسى مقصوده منه وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به فاجتمع له محبته والاستعانة به
فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته مستعان بنفسه فهذا أعلى الأقسام وليس ذلك إلا لله وحده وكل ما سواه فإنما ينبغي أن يحب تبعا لمحبته ويستعان به لكونه آلة وسببا الثاني: محبوب لغيره ومستعان به أيضا كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض محبه الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره الرابع: مستعان به غير محبوب في نفسه
فإذا عرف ذلك تبين من أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته وإلا كانت مضرة على العبد ومفسدتها أعظم من مصلحتها والله المستعان وعليه التكلان