قابلتها في المطار عائدة إلى الوطن،شابة لم تتجاوز الثلاثين من العمر، كان علينا انتظار الرحلة التالية في مطار استنبول وهنا تعارفنا، وتحدثنا عن الغربة وفرحة العودة إلى الوطن، وبعد أن أنهينا حديثنا، استأذنتها بنشر ما حدثتني به فوافقت بترحاب.

فتاة متعلمة، متفهمة، نقية، أصابها الواقع المر بوابل الخداع والغش والكذب فتعرضت لأزمة نفسية حادة، وبعد العلاج، اقترح عليها خالها الذي يعيش في إحدى الدول الاسكندنافية أن يستضيفها عنده فترة ستة أشهر لترمم الضرر النفسي الذي أصابها وهكذا فعلت ، وهي الآن بأحسن حال.... تقول:
عندما وصلت إلى هنا، أحسست أنني انتقلت إلى كرة أرضية أخرى، فوجودي في أجواء هذه البلاد لا يمت بصلة إلى معلوماتي عنها....


أول ما لاحظته هنا أن إنسانية الانسان كاملة، والكل يسعى إلى تمامها، نظام معقد جداً هدفه الوحيد راحة المواطن وسعادته، النظافة في حدها الأقصى، الرعاية الاجتماعية والصحية لايمكن تصورها. سهولة الحياة تجعلك تتمنى أن تحيا ألف مرة، جمال الحياة يدفعك بقوة إلى الحفاظ على هذه المكاسب وتوريثها للأجيال اللاحقة، أما المحبة والمودة فهي عبارة عن هالة كبيرة تحيط بكل الكائنات البشرية والنباتية والحيوانية....

ما هذا العالم؟؟ وكيف يعيشون هكذا؟؟ هذا ما شغل تفكيري طيلة الشهور الستة التي عشتها هناك وتوصلت إلى الجواب.

إنه الإيمان، الإيمان بكل أنواعه، هم يؤمنون بالإنسان، وبحقه في العيش كإنسان وسخروا لهذا كل طاقاتهم، وجعلوا كل شيء تحت المراقبة، هناك كاميرات تراقب كل شيء، والمخطئ يغرّم فوراً فلا يعود إلى الخطأ، إلى أن أو صل بهم الحال إلى الدرجة التي لم يعد فيها عندهم مخطئين، وإن وجد فهو قادم جديد أخطأ عن عدم معرفة وسيقلع عن الخطأ قريباُ....


الطرقات مراقبة فلا يجرؤ أحد أن يرتكب مخالفة مرورية، والحركة الصناعية والتجارية مراقبة فلا يفكر أحد بخرق القانون، والعامل والموظف مراقب فهو مضطر لتأدية عمله بكل إخلاص. باختصار فإن عملية المراقبة عندهم أصبحت ذاتية.


أما نحن فلا نؤمن بشيء، ندّعي الإيمان بالله تعالى، لكن عندما بدأت أتساءل وجدت أننا ندّعي وندّعي فقط، وإليك الأسئلة التي تساءلت، والتي أوصلتني إلى هذه القناعة:

_ بم يؤمن الكاذب ؟؟
_ بم يؤمن الغشاش ؟؟ سواء غش في السلع أو الامتحانات أو الانتخابات
_ بم يؤمن المرتشي ؟؟ الذي برشوته أحق الباطل وأبطل الحق
_ بم يؤمن الفوضوي ؟؟ وصاحب الشتائم والألفاظ الرديئة
_ بم يؤمن الذي يرمي نفاياته في الطرقات ؟؟
_ بم يؤمن الذي يتكلم في أعراض الناس وخصوصياتهم ؟؟ ويجلب لهم المصائب
_ بم يؤمن الذي يخالف إشارات المرور ؟؟ ويتسبب بضرر الناس
_ بم يؤمن الذي يعتبرها شطارة بأخذ دور غيره في أي شيء؟؟ يزاحم ويشاحن ويخلق أجواء التوتر بين الناس.
_ بم يؤمن الذي من أجل مصلحته الشخصية لا مانع عنده أن تتضرر البلد كلها؟؟
_ بم يؤمن ذاك الذي يعسر أمور الناس في الوقت الذي يتلقى فيه الأجر لييسر أمورهم ويقضي حوائجهم؟؟
عجباً، بالإيمان وصل هؤلاء الناس الذين كنت ضيفتهم تلك الفترة إلى هذه الدرجة التي يصعب فيها على العقل أن يتصورها، فلا يوجد صاحب حاجة إلا وهناك من يعتني به ويؤمن له حاجته، ثم وصل بهم الأمر إلى أن الحاجات أصبحت مؤمنة فالتفتوا إلى تقديم الرفاهية لذلك المحتاج.
لكن عجبي هذا قد زال عندما تذكرت كيف عاشت بلادنا وكيف عاش شعبنا في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، عندما كان الإيمان، كانت المراقبة ذاتية أيضاً، ووصل الناس إلى درجة يبحثون فيها عن من يأخذ مال الزكاة فلايجدون، لم يعد هناك فقر، لم تعد هناك حاجة وتوفر الايمان فانطلقت الحضارة الاسلامية تشع نورها في كل بقاع الأرض.


فهل نحن اليوم مؤمنون ؟؟

رمضان قادم....كل عام وأنتم مؤمنون