وحج بالناس هذه السنة المنصور؛ فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان ولا يعلم بشخوصه محمد بن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها.
وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر ووليها محمد بن سعيد.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك تجهيز المنصور جيشًا في البحر لحرب الكرك، بعد مقدمة البصرة، منصرفًا من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشًا لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها - فيما ذكر -. وقمته هذه البصرة القدمة الآخرة.
وقيل إنه إنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يومًا، وبنى بها قصرًا ثم انصرف منها إلى مدينة السلام.
وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه: سعيدًا ومسعودًا ومخلدًا ومحمدًا، وطالبهم. وكانت منازلهم المناذر وكان سبب غضبه عليه - فيما قيل - سعي أبان بن صدقة كاتب أبي أيوب إليه.
وفي هذه السنة قتل عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الأباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا - فيما ذكر - ثلاثمائة ألف وخمسين ألفًا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفًا، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفًا، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يومًا.
وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بن أعين ويوسف بن علوان من خراسان في سلاسل، لتصبهم لعيسى بن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا - فيما ذكر - يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجى من إمام زيادة ** فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ** دنان يهود جللت بالبرانس
وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلًا، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها واخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين.
وفيها ولى المنصور بكار بن مسلم العقلي على أرمينية وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أبي جعفر المهدي.
وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد بن الحسن، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى قضائها سوار وعلى مصر محمد بن سعيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك خروج المنصور إلى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بن حاتم إلى أفريقية في خمسين ألفًا - فيما ذكر - لحرب الخوارج اللذين كانوا بها، الذين قتلوا عامله عمر بن حفص. وذكر انه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة عزم المنصور - فيما ذكر - على بناء مدينة الرافقة، وذكر عن محمد جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها، امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا، وتضيق منازلنا؛ فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له: هل لك علم بأن إنسانًا يبني هاهنا مدينة؟ فقال: بلغني أن رجلًا يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص.
وذكر محمد بن عمر أن صاعقةً سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بنس آخى أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم؛ وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به.
وفيها ولي عبد الملك بن ظبيان النميري على البصرة.
وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف.
وكان على المدينة الحسن بن يزيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان. وعلى قضائها سوار بن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك افتتاح يزيد بن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان مع واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان.
وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته.
وفيها - فيما ذكر محمد بن عمر - خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورًا، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله. وعزل فيها المنصور عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك.
وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم؛ فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهمًا من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر خندق لها، فقال شاعرهم:
يا لقومي ما لقينا ** من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ** وجبانا الأربعينا
وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور؛ على أن يؤدي إليه الجزية.
وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بن أسيد السلمي وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالًا، وغضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قال: كان المنصور ولى العباس بن محمد الجزيرة بعد يزيد بن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطًا عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد علي بن عبد الله بن عباس أما إسماعيل بن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين؛ إن آل علي بن عبد الله - وإن كانت نعمك عليهم سابغة - فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا؛ فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام، فضيقوا عليك. وأنت غضبان على العباس بن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحدًا منهم كلمك فيه. قال: فدعا العباس فرضي عنه.
قال: وقد كان يزيد بن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بن أسيد: يا أمير المؤمنين؛ إذا كان إحسانكم جزاء إساءتكم، كانت طاعتنا تفضلًا منا عليكم.
وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بن كعب.
وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بن سليمان بن علي، في قول بعضهم، وأستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير.
وأما عمر بن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة، وولاها عمرو بن زهير الضبي أخا المسيب بن زهير في هذه السنة. قال: وهو حفر الخندق بالكوفة.
ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي

ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء - وكان خال معن بن زائدة - فأمر بحبسه. قال أبو زيد: فحدثني قثم بن جعفر والحسين بن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبى الجبار - وكان منقطعًا إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما - فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمدًا، فقال: أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته؛ فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه. فلما انصرف أذكره، فدعى به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام؛ والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه.
وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئًا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده. فقال محمد للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبًا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك؛ فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب يعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلامًا جاهلًا لا علم له بما يأتي؛ يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري! وقد كتبت بعزله؛ وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إن محمدًا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن قتله صوابًا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك. فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله. وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحة بلغته عنه، اتهمه فيها؛ وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بن سوار الجرمي صاحب شرطة، وفي مساور يقول حماد.
لحسبك من عجيب الدهر أني ** أخاف وأتقي سلطان جرم
وفي هذه السنة أيضًا عزل المنصور الحسن بن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وجعل معه فليح بن سليمان مشرفًا عليه. وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ابن محمد، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد

فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بن بن شداد عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب.