وإنما ذكرت لك هذه الأمور، لتعلم أن الشئ في معدنه أعز، وإلى مظانه أحن، وإلى أصله أنزع، وبأسبابه أليق، وهو يدل على ما صدر منه، وينبه ما أنتج عنه، ويكون قراره على موجب صورته، وأنواره على حسب محله، ولكل شئ حد ومذهب، ولكل كلام سبيل ومنهج. وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إلٍّ. [318]
فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية، يتميز عما لم يكن كذلك.





ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان، ولو لم يكن فيه إلا ما من به الله على خلقه بقوله: { خلق الإنسان علمه البيان }. [319]
فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه، وأكمله وأعلاه، وأبلغه وأسناه.
تأمل قوله تعالى: { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه. وموضع امتنانه بالذكر والتحذير.
وقوله: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وهذا بليغ في التحسير.
وقوله: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر، معودين لمخالفة النهي والأمر. [320]
وقوله: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } هو في نهاية المنع من الخلة إلا على التقوى.
وقوله: { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله }. وهذا نهاية في التحذير من التفريط.
وقوله: { أفمن يلقى في النار خيرا أم من يأتي آمنا يوم القيامة. اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هو النهاية في الوعيد والتهديد
وقوله: { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل. وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } نهاية في الوعيد.
وقوله: { وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } نهاية في الترغيب.
وقوله: { ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض }، وكذلك قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } نهاية في الحجاج. [321]
وقوله: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.
ولا وجه للتطويل، فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء.
وقد ذكرنا من قبل أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز، وهو معجز من القرآن.





وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ - فليس ذلك بطريق الإعجاز، لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره، وليس ذلك بمعجز، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة، وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز.





وتضمين المعاني أيضا قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها.
وأما الفواصل فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز، وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا، وبينا في تلاؤم الكلام ما سبق: من صحة تعلق الإعجاز به.
والتصرف في الاستعارة البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام، لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجرى مجرى واحدا وتأخذ مأخذا مفردا.





وأما الإيجاز والبسط فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز، كما يتعلق بالحقائق.





والاستعارة والبيان في كل واحد منهما ما لا يضبط وحده، ولا يقدر قدره، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب، وكل ما يمكن تعلمه، ويتهيأ تلقنه، ويمكن تحصيله، ويستدرك أخذه - فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.
ولذلك قلنا إن السجع ما ليس يلتمس فيه الإعجاز، لأن ذلك أمر محدود، وسبيل مورود، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.
وكذلك التجنيس والتطبيق، متى أخذ أخذهما وطلب وجههما، استوفى ما شاء، ولم يتعذر عليه أن يملا خطابه منه، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري، وإن كان البحتري أشغف بالمطابق، وأقل طلبا للمجانس.
فإن قال قائل: هلا قلت إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية، لا يوصل إليها بالتعلم، ولا تملك بالتعمل، كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟
قلنا: لو عمد إلى كتاب الأجناس، ونظر في كتاب العين، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.
فأما الإطباق فهو أقرب منه، وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها، لأنها لا تستوفى بالتعلم.
فإن قيل: فالبيان قد يتعلم؟
قيل: إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس، وتتناهى فيه العادات، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل، وأن الناس يتقاربون في ذلك، فيرمون فيه إلى حد، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي، ولم يقدروا على التعدي، إلا أن يحصل ما يخرق العادة، وينقض العرف، ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات، على شروط في ذلك.
والقدر الذي يفوت الحد في البيان، ويتجاوز الوهم، ويشذ عن الصنعة، ويقذفه الطبع في النادر القليل، كالبيت البديع، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر، والفقرة تتفق في رسالة كاتب، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين، أو قطعة أو قطعتين، والأديب شهير كلمة أو كلمتين - ذلك أمر قليل.
ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك، ويستمر على ذلك المنهج أمكن أن يدعي فيه الإعجاز.
ولكنك إن كنت من أهل الصنعة: تعلم قلة الأبيات الشوارد، والكلمات الفرائد، وأمهات القلائد.
فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية، لم تجد ذلك في الدواوين، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.
ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة، ولفظة بديعة، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها، وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة، ومقدار في الخطابة.
وهذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن، وإن لم يكن له حكم الشعر.





فأما قدرُ المعجز فقد بينا أنها السورة، طالت أو قصرت؛ وبعد ذلك خلاف: من الناس من قال مقدار كل سورة أو أطول آية، فهو معجز.
وعندنا كل واحد من الأمرين معجز، والدلالة عليه ما تقدم، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك، فلذلك لم نحكم بإعجازه، وما صح أن تتبين فيه البلاغة، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام.
فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى، كان بالغا وبليغا. فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة، وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة - صح أن يكون له حكم المعجزات، وجاز أن يقع موقع الدلالات.
وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر.