بقلم: سارة السويعد



كنت أتصفح يوماً أحد مواقع الشبكة العنكبوتية التي تُعنى بكتابة رسالة صغيرة في الواجهة الرئيسية.
استوقفتني تلك الرسالة ما لم تستوقفني ملايين الرسائل السابقة في كل زيارة، استوقفتني فقرأت ما بها، وشيء ما في داخلي..
هيا فلتقرؤوها معي (المؤمن يستطيع أن يحتمل الجوع، ويستطيع أن يحتمل الحرمان...... هنا، هنا وجمت بصمت، وفكري يدور كالرحى (المؤمن يستطيع أن يحتمل الحرمان) ياه ما أقسى الكلمة!! منعتني عن إكمال القراءة للرسالة بل حتى عن التصفح كله.
ياه ما أقسى الحرمان.... وما أشد وطأته!!
تُمحى كل المغالطات إلاّ الحرمان يبقى كملك قد كرهه من حوله رغم سطوته... ينسى الفرد كل ما يصيبه إلاّ الحرمان تعاوده ذكراه عند كل ابتسامة.
أينما اتجهت رأيت صور الحرمان.. يُحرم الوالد ابنه، يُحرم الفقير ماله، يُحرم السيد سؤدده، يُحرم الصغير أمه، يُحرم المبدع معينه، يُحرم الحبيب حبيبه.
لكن حرماناً قاسياً أعني.. حرماناً مؤلماً أصور هنا... فأرجوكم أدركوا أحرفي فكّروا بقلوبكم.. أرجوكم أيها القرّاء.. حين يكون الحرمان حرمان رضا المولى -جل وعلا- تكون المهلكة ولات حين مناص.
كل معاني الحرمان تتجسد في ساعة بلاءٍ لا يُرفع، ونداءٍ لا يُسمع. يا رب لا تحرمنا رضاك ولا تمنعنا طاعتك، فلا مأمن إذن من سخطك، ولا مهرب من قيّوميّتك..
أعلمتم الآن ما سر حزني من هذه الكلمة (الحرمان)؟ لقد نكأت كل الجراح وأعادت سواد الصور. والله لن نستطيع تحمُّل الحرمان.. ولو تحمّلناه لشقينا وأشقينا.
* حين نـُحرم الرضا... يضيع كل شيء.. تختنق البسمات، تشتد البليّات، وتعظُم المهلكات.
* حين نـُحرم الرضا نفقد الإحساس بكل شيء.. تضيع النيات، تتبعثر الأطروحات، وتنهار السامقات.
* حين نـُحرم الرضا.. ينتهي كل شيء.. تتمزق الأركان، وتصفق الأيدي خسارة الدنيا.
* حين نُحرم الرضا.. فطريقنا مسدود.. وسؤالنا مردود.. ونورنا محجوب.. وهمنا مغلوب...
* حين نُـحرم الرضا.. لن نـحصد سوى الحسرة.. وما أشقانا!!
*****
أيها الإنسان أناجي قلبك.. فيا إنسان.. لا يُشقيك حرمان الرضا.
يا إنسان.. كل جراح الحرمان تندمل إلاّ جُرح حرمان الرضا..
يا إنسان.. مسكين إن حُرمت الرضا فهمومك لمن تبثها؟!
وأشجانك تبعثها لمن؟!
كيف لا وقد حُرمت كل شيء.. أوليس الرضا كُل شيء؟! دموعك لمن.. وشكواك إلى من؟ كيف لا وقد حُرمت العطاء من المعطي.. كيف لا وقد قُوبلت بالجفاء من رب الأرض والسماء.. كيف لا وقد فقدت المعين والمجيب والقريب والنصير والحبيب.. فواه لك!!
أعلمت الآن ما أقسى حرمان الرضا؟!
مصائب وابتلاءات.. محن وفاجعات تعصف بكل فرد؛ تقذف به هنا وهناك، ولكن من سكن الرضا قلبه حوقلت أركانه وغشيته الرحمة، فظل رغم الأذى يكسوه الرضا... ويا روعة ذلك! من منا لم يئن من المصيبة، ويبكي الألم؟! من منا لم يمزّقه حدث، ويهزمه جرح؟! والله لا أحد... أجزم بها على اختلاف الآلام!
هنا فقط يفيض نور الرضا يهَبُه الله لمن يحب.. فما أروع الحب والرضا! فالرضا تمام المحبة، ويعقبه الاقتراب، فما أروع أن يقترب العبد من جلال المولى -جل وعلا- فيعيش عذب المحيا وإن تراءى للناس الشقاء.
أغلب الأشياء في هذا العالم المظلم تُبعدنا عن الرضا تجعلُنا نستسيغ الحرمان، ونحن بكل سذاجة نقبلها وبحب أيضاً.. ياه ما أشد سذاجتنا! ولا نزال باعتبارنا لما نحن فيه متباينين، لا نزال أسرى أوهام برّاقة، ومتغيرات متعبة، وواقع مؤسف.
لماذا الإفاقة دائماً تكون متأخرة.. والبحث عنها مفقودٌ غالباً؟!
إن القدرة الفائقة التي نحتاجها في ضبط أنفسنا وتوجيهها إلى الرضا ومنعها من الأنفة والجدال ليست قدرة مختلقة بل هي موجودة حين ندرك أن ثمة معنى دقيقاً لمفهوم الرضا لا يدركه إلاّ أولو الألباب.
ولأن ضآلة المرجو نحن الملامون عليه، والسبب إغراؤنا لأنفسنا وترغيبها للبحث عن الرضا ضعيف واهن ضعف بيت العنكبوت.
اعتدنا على الخيالات لمتع الدنيا والتشهي بها، ودغدغة المشاعر بطلب كل جديد فن نتقنه... ويا حسرتنا!!
واعتدنا أيضاً أن نحزن على فوات مال، أو انقضاء مصلحة، ولقد كان الأولى بنا أن نطالب النفس بالاستقصاء عن الرضا الذي ندُر الطالبون له تحت وطأة الجديد المؤلم، والمستقبل المميت، وظل الرضا بعيد المنال رغم روعة معناه.
ولأن تشطير النفس في أعمالها ومقاماتها مهلك لها ولا عجب، فالفخامة المطلوبة ليست في التشطير، وإنما في تحديد توجه النفس في طلب الرضا والرضا فقط.
- فإياك أن تكون من الحمقى والسُذّج وأرباب الهوى الذين لا يعقلون معنى حديثي هذا... معنى الرضا!!
- وإياك أن تكون كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة.
- وإياك أن تغلق الذهن وتدمغ الفكر عن جمال الرضا.
- وإياك أن تكون جيفة بالليل حماراً في النهار.
صحيح أن بعضنا ينظر إلى الحياة بمنظار ضيق أفقد قلبه هذا المعنى، وحرم نفسه من أروع طلب تدافع الصحابة من أجله نحو الموت ولم يأبهُوا بأقسى العذابات.
تعال معي واجعل بين يديك كتاب ربك.. واقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). سورة البينة.
واقرأ قوله تعالى: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). [المائدة:119].
واقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). [المائدة:54].
وأقرأ قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). [البقرة:165]..
وقوله تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى). [الليل:21].
وقوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). [المجادلة:22].
وقوله تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى). [طـه:130].
وقوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5]. وغيرها وغيرها.. وأنت مسكين محروم حتى من التفكير في الرضا.. ياه ما أحقر عيش محروم الرضا!!
لو أحتضن صدرك كل ما تودّه يبقى حرمانك الرضا متعباً ومنغصاً. أرجوك لا تُحرم الرضا! لا تُفرط في ساعة خلوة تُناجي نفسك وتسألها ترضية المولى جل وعلا.


يتبع.....