رحلة بحثه عن عمل توقفت بعد حصوله على عقد للعمل في الشركة السورية للغاز، في خط غاز حلب - تركيا، وتحديداً في منطقة حلب - المحطة الحرارية في منطقة السفيرة، التي تبعد عن حلب حوالي 30 كم، لكنّ ذلك لم يمنعه من البحث عن ضياع روحه بين غياهب الصحراء، فبعد أن قرّر (جعفر.د) الاستراحة والبقاء في المنزل للوقاية من آثار الشمس، قرر الذهاب مع زميله في العمل لنقل بقية العمال، ورغم رفض زميله أخذه معه بسبب عدم اتساع المكان له في السيارة، إلا أنّه أصر على أن تكون رحلته الأخيرة فيها وسط زملائه لملاقاة موته.
مات جعفر قبل أن يرى ابنته (خمسة أشهر) تدب على قدميها، وقبل أن يسمعها تلفظ اسمه، لتبقى وتكبر، وتسمع عن قصة موت والدها في ربيع عمره (31 عاماً)، وذلك بسبب إهمال وتقصير لا يمكن أن ينتج عنه إلا الموت، تاركاً زوجته وابنته وحيدتين بلا سند أو معيل.
مشوار مع الموت
حوادث وإصابات العمل متعددة، وهذه ليست المرة الأولى أو الوحيدة التي تتسبب فيها إصابات العمل في موت عشرات الأشخاص، إضافة إلى ذلك لم تتخلّ الشمس هذه المرة عن وعودها، ورغم كلّ التحذيرات التي أطلقتها وزارة الصحة، نتيجة موجة الحر الشديدة التي تعرضت لها سورية مؤخراً، بعدم التعرّض الشديد لأشعة الشمس، إلا أنّ قدره قاده لملاقاة حتفه تحت أشعتها، لتكون الصورة الأولى في مشوار موته إلى جانب أسطوانة أوكسجين، كانت مرمية على الأرض، في انتظار من تفاجئه بانفجارها، والغريب في الأمر، وبحسب تصريحات زملائه بأنه غالباً ما ترمى أسطوانات الأوكسجين بعد الانتهاء منها، دون الاكتراث لما تحمله من مخاطر، وبذلك يأتي انفجارها صحوةً من كارثة الإهمال، ولتفي ما وعدت به أشعة الشمس الحارقة، وذلك بالاتفاق والتعاون مع أسطوانة الأوكسجين، وفي النهاية كانت النتيجة موت (جعفر).


لا تنادِ.. ما من مسعف!
دويّ الانفجار هزّ مكان العمل كله، لكنّ المفارقة أنه لا أحد كان يتوقع وقوع أي إصابات، لتكون الصدمة الكبرى بموت أحد زملائهم، وقرّر الموت هذه المرة أن يقسم ضيفه إلى نصفين، ورغم ذلك بقيت أوصاله السفلية على اتصال بسيط ببقيّة جسده على أمل أن تلتئم جراحه بعد إسعافه، ومع ذلك ورغم كلّ النداءات لطلب الإسعاف، وبعد حوالي نصف ساعة من الانتظار، حضرت سيارة الإسعاف، لكنّها ـ من أسف ـ لا تحمل إلا كرسيّ الموت، وكأنها متفقة والقدر على إنهاء حياته.


رحلة تشتّت..
التفتيش عن نقالة في المستشفى لم يعد يفيد، خاصةً أنّ روح (جعفر) تهمّ بالخروج من جسده، وهي على أبوابه الأخيرة، حتى إنّ عمليات الإسعاف الأولية منها لن تجدي، وطلبات الاستغاثة والأمل في العودة إلى الحياة لن يسمع من مجيب، وبذلك تكتمل مشاهد التآمر على إنهاء حياة شاب، كانت، منذ وجود أسطوانة الأوكسجين في العراء، متكاملة العناصر، بدءاً من سيارة الإسعاف(الخردة)، وانتهاءً برحلة المستشفى.


(جعفر).. مات!
مات (جعفر)، ومعه ماتت أحلام شاب في الثلاثينات بتحقيق غدٍ مزهر، وإكمال مراحل العمر كافة مع عائلته وأصدقائه، على أنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وما زال في انتظاره معاملة (طويلة عريضة) للموافقة على رحلة الموت التي شاءها قدره، ورفضها هو، وبعد وصول أهله إلى المستشفى، ورغم صدمتهم بموت ابنهم، إلاّ أنّ هناك ما يجب أن ينفذ، وإجراءات أوراق الوفاة لا بدّ أن تستوفى، فتراب القبر لن يقبله دون أوراق اعتماد إنهاء حياته على الأرض.
ميت في ضيافة طبيب!


من أهم أوراق الوفاة تقرير الطبيب الشرعي، الذي بدوره رفض الحضور إلى المستشفى، وطلب من أهل المتوفى إحضاره إلى العيادة، وبما أنّ ساعات الانتظار ما زالت تلاحق (جعفر) حتى وفاته، رفض أيضاً المسؤولون في المستشفى إبقاء جثته فيها، بحجة عدم وجود براد لحفظ الجثث، لتكون العبارة الأوضح أنّه «نعتذر عن استقبال متوفّى»!.
قنبلة موقوتة!
المهندس محمد الضماد، رئيس مختبر الضغط في المخبر الوطني للمعايير والمعايرة، يتحدث عن عوامل السلامة والأمان في العمل والمشاريع، بوصفه يتعامل مع الغاز المضغوط، فيشرح أنه من الممكن أن يكون انفجار أسطوانة الأوكسجين، التي أدت إلى موت «جعفر»، قد حدث نتيجة عوامل عدة أسهمت حرارة الشمس العالية في اشتعالها، من أهم هذه الأسباب، كما يوجزها الضماد: «أن مواصفات أسطوانة الأوكسجين من الممكن أن تكون غير كاملة، وغير محققة، بحسب المواصفات العالمية، أو ربما تعرضت إلى التآكل، ونتيجة عدم التأكد من فراغ الأسطوانة من الأوكسجين تماماً، أدّى تسرّب بعض الأوكسجين، في حال كانت الأسطوانة غير فارغة تماماً منه مع احتكاكها بمعدن معين أو شاردة كهربائية أو أيّ جهاز إلكتروني، إلى شرارة كهربائية، وبالتالي إلى حريق وانفجار»، لذا من المهم ـ بحسب رأي الضماد ـ أن تكون عوامل الأمن الصناعي محققة في المشاريع، مع التأكد من جاهزية المواد المستعملة، وحتى في حال الانتهاء من هذه الأسطوانات، فإنه ثمّة آليات معيّنة للتخلّص منها، خاصة في التعامل مع مختلف أنواع الغازات، ومن ضمنها الأوكسجين كونه قابلاً للانفجار السريع.


للعلم فقط!
جعفر عامل، كباقي أبناء جيله، يبحث عن لقمة عيشه، بعيداً عن أهله، هو ضحية للإهمال والتقصير والاستخفاف بأرواح المرضى، وعدم الإحساس بالمسؤولية، وحتى عندما منح فرصة العمل، لم يكن في حسبانه أنها ستعجل في موته، وتزيد من آلام جسده، وبعد موته أسهمت في عذاب أهله، وتشتت أعضائه، وضياع دمائه.
أريد أن أعيش...
بعد حضور سيارة الإسعاف، بحسب قول أحد زملائه (ياريتها لم تأتِ)، ورغم كلّ مظاهر وعلامات الموت على حال (جعفر)، إلا أنّه أصرّ على عيش باقي مراحل العمر، وبقي متمسكاً بأحد زملائه، صارخاً: «أريد أن أعيش...لا أريد الموت»، ولكن «مهما ناديت لا مجيب»، وأخيراً وصلت سيارة الإسعاف إلى مستشفى «الرازي» في حلب، ولأنّه من واجب المسعفين الحضور إلى باب الإسعاف، وقت سماع صوت السيارة، صمّ المسعفين آذانهم، ليزداد التحالف مع الموت، وعليه تسمو مهنة الطب بهدفها النبيل، ويتبرع بعض الأطباء في المستشفى بإسعافه ونقله من السيارة، لكنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وعدم حضور المسعفين ـ كما يبدو ـ مبرّر، خاصةً أنّه لا توجد نقالة للإسعاف، ما اضطر زملاءه والأطباء إلى حمله حتى غرفة العمليات.
وضاعت قدماه..
بعد وصول أهل (جعفر) إلى المستشفى، وبعد انتهاء معاملة الوفاة، قرّر ذوو المتوفى أخذه إلى مسقط رأسه ودفنه هناك، وبعد الصعود إلى سيارة الإسعاف، فوجئ الجميع بعدم وجود قدميه مع الجثة، ومعه بدأت رحلة المعاناة، وعملية البحث عن قدمي (جعفر) الضائعتين في ردهات المستشفى، وبعد دقائق عثر عليهما فوق كرسي الانتظار، وكأنهما رفضتا الرحيل!.