نريد بالآداب الاجتماعية ما يدور بين الناس من المعاملات الأدبية والأمور الاعتبارية في هيأتهم الاجتماعية وما يتبادلونه من العلائق العائلية على ما تقتضيه عاداتهم وأخلاقهم وطبائع إقليمهم وكان للعرب قبل الإسلام صفات أشهرها:
1 ـ العصبية.
2 ـ الشجاعة.
3 ـ الكرم.
4 ـ الوفاء.
5 ـ الاستقلال.
6 ـ النجدة.
7 ـ الأريحية.
8 ـ الثأر.
9 ـ الشيخوخة.
10 ـ الغيرة.
وبلغ من غيرة بعضهم في الجاهلية أن يقتلوا بناتهم أو يئدوهن لئلا يرتكبن ما يجرّ عليهم العار.
وكان للمرأة في الجاهلية شأن وإرادة وكانت صاحبة أنفة ورأي وحزم فنبغت غير واحدة منهن في السياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة ولاسيما في أوائل الإسلام على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول فاشتهرت جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال وأكثرها في المدينة مقر الخلافة الإسلامية في ذلك العهد، ناهيك بمن اشتهرت منهنَّ بالبسالة في أثناء الغزوات ففي معركة أحد وقع لواء قريش في ساحة القتال فلم يزل مطروحاً حتى أخذته امرأة منهم اسمها عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لهم فلاذوا بها، وفعلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان في تلك المعركة ما لم يفعله الرجال فجمعت إليها نسوة أخذن في أيديهنّ الدفوف يضربن خلف الرجال وهي تنشد في تحريضهم على الثبات. ولما انتهت الواقعة خرجت مع النسوة تمتاز جثث القتلى فوجدت بينها جثة حمزة عم النبي (صلّى الله عليه وآله) فبقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها من غيظها فلم تستطع أن تستسيغها فلفظتها ثم علت صخرة وأنشدت أشعاراً تفخر بالفوز على المسلمين.
ونساء الجاهلية كن يصحبن الرجال إلى ساحة القتال فيداوين الجرحى ويحملن قرب الماء وممن اشتهرن بالشجاعة أم عمارة بنت كعب الأنصارية وأم حكيم بنت الحارث والخنساء الشاعرة أخت صخر وغيرهن.
ونبغ بالرأي والحزم غير واحدة أشهرهن خديجة بنت خويلد وكانت عاقلة حازمة لبيبة ذات شرف ومال، تنتقي مَن اشتهر من الرجال بالأمانة والحزم فتستأجرهم بمالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، ولما سمعت بشهرة النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل الدعوة بالأمانة وكرم الأخلاق بعثت إليه أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من الرجال فلما أفلح في تجارته عرضت عليه أن يتزوج بها فأجابها، وهي أول من أسلم وقد آزرته للقيام بالدعوة فكان لا يسمع شيئاً مما يكرهه مِن ردٍّ عليه أو تكذيب له فيحزنه ويخبرها به إلا ثبّتته وخفّفت عنه وهوّنت عليه ومازالت على ذلك حتى ماتت.
الآداب الاجتماعية في العصر الإسلامي الأول
ويقسم العصر الإسلامي الأول إلى أيام الخلفاء الأربعة وأيام الأمويين فنذكر الآداب الاجتماعية في كل منهما على حدة.
1 ـ الآداب الاجتماعية في عصر الخلفاء الأربعة
قلما أصاب المناقب البدوية تغيير في عصر الخلفاء الأربعة إلا ما اقتضاه الدين من جمع كلمة العرب تحت لوائه فضعفت بذلك العصبية بين القبائل والبطون واجتمع العرب من قحطان وعدنان في ظل الإسلام.
أما ما بقي من مناقب العرب فظلت على نحو ما كانت عليه وبعضها زاد تمكّناً في نفوسهم كالوفاء والنجدة والعفة والأنفة لأن الإسلام زادها رونقاً وقوة بالعدل والتقوى فكان الخليفة أو أميره إذا وعد وفى وإذا عاهد أنجز لا يثنيه عن ذلك طمع أو خوف، اعتبر ما كان من وفائهم لأهل الذمة إذ عاهدوهم على أن يحموهم ما أدوا الجزية فكانوا إذا شغلهم عن حمايتهم شاغل ردّوا الجزية إلى أصحابها واعتذروا ولو لم يردّوها ما طالبهم بها أحد وإنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، والشجاعة كانت سائدة في ذلك العصر لما تتطلبه الحاجة إليها في الفتح والجهاد، وقس على ذلك سائر المناقب ولاسيما الاستقلال والحرية فإنهما زادا قوة في صدر الإسلام لما توخّاه الخلفاء الأربعة من التسوية بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم حتى أصبحوا يخاطبون الخليفة أو الأمير بجسارة وأنفة كما يخاطبون بعض أقرانهم وإذا رأوا فيه اعوجاجاً هدّدوه أو عنّفوه وأصلحوه فإذا لم يطعهم قتلوه كما فعلوا بعثمان وكثيراً ما كان المسلمون يحصبون أميرهم وهو يخطب فيهم إذا أنكروا شيئاً من أقواله أو أعماله.
أما المرأة فاتجهت قواها في صدر الإسلام إلى سداد الرأي ومزاولة الأدب والشعر مع بقاء العفة والأنفة فاشتهر منهن غير واحدة جرت بذكرهن الأمثال، ولما نضج التمدن الإسلامي اشتهرت نساء عديدات بالسياسة والصلاح والدهاء وغير ذلك.
2 ـ الآداب الاجتماعية في عصر الأمويين
أصاب المناقب العربية في الدولة الأموية تغيير يختلف عما أصابها في عصر الخلفاء الأربعة باختلاف أحوال الدولتين. فالأمويون لما جعلوا همّهم الرجوع إلى ما كان لهم من السيادة في الجاهلية أغفلوا كل ما كانوا يخافون حيلولته بينهم وبين ذلك المرمى واستبقوا ما يتوسّمون منه نفعاً لغرضهم.
والشجاعة لم يكن لهم بد منها فقرّبوا أصحابها، والعصبية كانت ملجأهم الأكبر في مناوأة أعدائهم من شيعة علي (عليه السلام) وغيرهم، فبعد أن ضعفت في عصر الخلفاء الأربعة وقامت جامعة الدين مكانها أعادها الأمويون إلى نحو ما كانت عليه قبل الإسلام.
أما الوفاء فكان عثرة في طريق أغراضهم لما كانوا يعلمونه من حق مناظريهم في الخلافة وقوتهم فلجأوا إلى الغدر والفتك، وكان معاوية زعيمهم ومؤسس دولتهم يفعل ذلك سراً ويموِّه غدره بالحلم والكرم والدهاء وحسن الأسلوب. فتدرّج الخلفاء بعده من بني مروان إلى الغدر جهاراً وأول من فعل ذلك عبد الملك وجرى عمالهم على هذه الخطة وأفرطوا فيها فاشتهر بها منهم زياد بن أبيه وابنه عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وغيرهم.
تقييد الأفكار في أيام بني أمية
أما الاستقلال وحرية القول فجاهد الأمويون في مقاومتهما وقيّدوا الألسنة بإرادتهم تقييداً شديداً فكان ذلك عظيماً على الذين تعوّدوا الحق والحرية فعاقبهم الأمويون جزاء حريتهم واستقلال أفكارهم بالعذاب الشديد، ومن لم يستطيعوا مقاومته جهاراً قتلوه سراً، بدأوا بذلك من أيام عثمان قبل قبضهم على مقاليد الدولة في الشام وقد جرّأهم عليه ضعف هذا الخليفة ورغبته في إرضاء أهله ونصرتهم ولولا ذلك ما استطاع معاوية اضطهاد أبي ذر الغفاري ونفيه لأنه جاهر باستبداد أهل الدولة بأموال المسلمين.
فلما أفضت الخلافة إلى معاوية لم يرَ بدّاً من الضغط على أفكار أهل الاستقلال والحرية واستعمل الشدة في ذلك فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما لأنهم قالوا بصدق: (إن علياً لا يجوز لعنه على المنابر) فأصبح الناس يخافون على أرواحهم وأخذوا يتعوّدون السكوت عن الحق ثم لجأوا إلى التمويه والرياء حتى في المشهور الثابت كما فعل ذلك الرجل لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد فأطرى عمل معاوية حتى قال له: (إنك لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها) ولكن الحرية كانت لا تزال حية في نفوس أهل الرئاسة ممن لم يكن يهمّهم التزلف إلى أهل الدولة وربما كانت الدولة أحوج إلى نصرتهم كالأحنف بن قيس التميمي فإنه كان يقول الحق ولا يبالي وكان ممن شهد الاحتفال بتولية يزيد وسمع ما قاله ذلك المنافق فاكتفى بالسكوت عن المدح، وأدرك معاوية فكره فاستفهمه عن سبب سكوته فلم يبال أن قال: (أخاف الله إذا كذبت وأخافكم إذا صدقت).
واقتدى بمعاوية من عاصره من الأمراء أو جاء بعده من الخلفاء فنشأ جيل من العرب يهون عليهم السكوت عن الحق وكثر أهل التزلّف والرياء وذهبت حرية القول بتوالي الأعوام.
أما النجدة والأريحية في العصر الإسلامي الأول فكانتا متأصّلتين في نفوس العرب وإن اضطر الأمويون إلى الإغضاء عنهما في بعض الأحيان فلما ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بعد تسلّط الأجناد الأتراك وتحولت الأغراض في أهل الدولة إلى كسب الأموال بأية وسيلة كانت، ذهبت الأريحية والنجدة.
المرأة في عصر الأمويين
بدأت المرأة بتبديل طباعها في أيام الأمويين لأن العفة والغيرة أصابتها في ذلك العصر صدمة قوية بتكاثر الجواري والغلمان وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف وانتشار الغناء والمسكر فتجرّأ الشعراء على التشبيب والتغزّل وتكاثر المخنّثون في المدن وتوسّطوا بين الرجال والنساء بالباطل، فأخذ الفساد يتفشّى بين الناس وضعفت غيرة الرجال وقلّت عفة الناس حتى كان الشعراء يتشبّبون ببنات الخلفاء كما فعل عبد الرحمن ببنت معاوية فالشعراء لم يكونوا يكفون عن التشبيب مع تعرّضهم للخطر وقلما كان يجسر على ذلك غير القرشيين، وأكثرهم جسارة عمر بن أبي ربيعة فإنه كان يصطحب ابن سريج المغني فيركبان على نجيبين ويلقيان الحاج فيتعرّضان للنساء وينشدان الأشعار لا يباليان أن تكون فيهن بنت الخليفة أو امرأته، والظاهر أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لما يرون من ارتياح النساء إليه لأن المرأة تفتخر بأن يثني الشعراء على جمالها وإن لم يرض أهلها، فقد كان لعبد الملك بن مروان بنت أرادت الحج فخاف أن يشبّب بها ابن أبي ربيعة فاستكتب الحجاج إليه إن هو فعل ذلك أصابه بكل مكروه، فلما قضت حجها خرجت فمر بها رجل فقالت له: (من أنت؟) فقال: (من أهل مكة) قالت: (عليك وعلى بلدك لعنة الله) قال: (ولم ذاك؟) قالت: (حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً نلهو بها في الطريق من سفرنا) قال: (إني لا أراه إلا قد فعل) قالت: (فآتنا بشيء إن كان قاله ولك بكل بيت عشرة دنانير) فمضى إليه فأخبره فقال: (لقد فعلت ولكن أحب أن تكتم عليّ) وأنشده قصيدة قالها فيها.
فكانت أيام بني أمية من حيث العفة والغيرة عصر انتقال من البداوة إلى الحضارة، فلما انقضى عصر الأمويين ذهب ما بقي من سذاجة البداوة في طبائع العرب واستسلم الناس للترف والرخاء وضعفت الغيرة وأبيح التشبيب وشاع على ألسنة الشعراء حتى صاروا يصدّرون به قصائد المدح والفخر، وكان الخلفاء الأولون من بني العباس لا يزالون على مقربة من البداوة (1) فأنكروا ذلك ونهوا عنه. ومن أشدهم غيرة المهدي بن المنصور فإن بشاراً أنشده مديحاً فيه تشبيب فنهاه عن التشبيب البتة فصار إذا مدحه بدأ بالمدح فظل التشبيب مستقبحاً حتى أباحه الرشيد وألحَّ في نظمه فآل ذلك طبعاً إلى ضعف الغيرة.
الآداب الاجتماعية في العصر العباسي
قد رأيت ما أصاب المناقب العربية الفطرية من التغيير بعد الإسلام بما طرأ عليها من عوامل الحضارة والانغماس في الرخاء والقصف والاختلاط بأهل المدن فغلبت عليهم الضعة وركنوا إلى بسطة العيش والتنعّم بمطالب الحياة الحيوانية.
المرأة في العصر العباسي
وآل تكاثر الجواري وشيوع التسري إلى ذهاب الغيرة من قلوب الرجال حتى صاروا يتهادون الجواري الروميات والتركيات والفارسيات وهنّ أجمل صورة وأشرق وجهاً من نساء العرب. فبعد أن كان الرجل لا يعرف غير امرأته والمرأة لا تفكر في غير زوجها وهي واثقة بأمانته فإذا هو قد تشتّتت عواطفه بين عدة نساء فقلّت غيرته عليها، ولما رأته مشغولاً عنها قلَّت ثقتها به إلا من عصمها عقلها وشرفها، فلم ينضج التمدن في العصر العباسي حتى تنوسيت المرأة العربية في المدن وذهبت حريتها وغيرتها وصارت هي نفسها تهدي زوجها الجارية وتحبّب إليه التقرب منها لا يهمّها ذلك ولا تغار عليه. وبعد أن كان العرب في الجاهلية وصدر الإسلام إذا علموا بحب رجل لفتاة منعوه من زواجها، صاروا يساعدونه في الحصول عليها.
فأفضى ذلك إلى انحطاط المرأة وذهاب عزة نفسها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل، فلم يبق من المناقب العربية في العصر العباسي إلا السخاء لأنه كان لازماً لقوام الدولة وسلامتها وتأييدها بل هو كان من أهم قواعد الارتزاق في ذلك العصر.