الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم




قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء، مشعر بمحبة النبي وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. وقال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، وأول من أحدثه من الملوك، الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، وألف له الحافظ بن دحية تأليفا أسماه: «التنوير في مولد البشير النذير» فأَجازه الملك المظفر بألف دينار، وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا، وقيل: إنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار.
وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله. ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد الله التنسي، ثم التلمساني في كتابه «راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر، وقيل فيه من الأمداح» وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه. إنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة، وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات، ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبرا مذابا، ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنمة، فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال، وبعقب ذلك يحتفل المستمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومفكرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب، وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حُلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح عند ذلك باب من أبوابها وبرزت منه جارية صورت في أحسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتضعها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة. هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حيّ على الفلاح، انتهى.
وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده في جميع الأمم الإِسلامية، وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين، وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر أمام المحافظة ويسير قاصدا ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازا شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الإشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش، وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسميا في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يستعرض الحامية المصرية على أثر وصوله، ثم ينتقل إلى السرادق ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع لتلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع، وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة، وفي الصباح تعطل الحكومة وزاراتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر، وقد أبطلت بدع كثيرة بفضل عناية رجال الدين ويقظة رجال الإدارة.
هذا ولا نزال نطالب ولاة الأمور بمنع كل ما يخالف الدين من آثار وما يجري في الموالد عادة لأن ذلك يشوِّه محاسن الإسلام ويفسد المقاصد الشريفة من إقامة مولد رسول الله