ما قاله علي لأصحابه

فأما عليّ بن أبي طالب فإنّه قال لأصحابه: « لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة. ولما كنتم الأعلين، وخاب عدوكم، ورأى الاجتياح، واستحرّ بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنها، ويقطعوا الحرب في ما بينكم وبينهم، ويتربّصوا ريب المنون، خديعة، ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوكموه، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتجوروا. وأيم الله، ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب حزم. »
ذكر حيلة للمغيرة بن شعبة ليعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان

كان الحكمان - وهما أبو موسى وعمرو بن العاص، اتفقا على أن يجتمعا بأذرح ويحضر وجوه أصحاب عليّ، ووجوه أصحاب معاوية، ويحضر عليّ ومعاوية في أربعمائة، ومدّة الأجل إلى أن يفصلا الحكم، ويرفعا ما رفع القرآن، وأن يختارا لأمّة محمد في ثمانية أشهر، أوّلها النصف من صفر، وآخرها انقضاء شهر رمضان.
فلما اجتمع الحكمان، وافاهم المغيرة بن شعبة في من حضر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، في رجال كثير ووافى معاوية في العدّة المذكورة، وأبي عليّ أن يوافى.
فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: « هل ترون أحدا من الناس برأى يبتدعه، يستطيع أن يعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان؟ » قالوا: « لا نرى أحدا يعلم ذلك. » قال: « فوالله، إني لأظنّ، [ أنّى ] سأعلمه منهما، [ حين ] أخلو بهما، وأراجعهما. » فدخل على عمرو بن العاص، وبدأ فقال: « يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه: كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنّا قد شككنا في الأمر الذي تبيّن لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأنى ونثبّت، حتى تجتمع الأمة. » قال: « أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار في سخط الله. » فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. حتى دخل على أبي موسى، فقال له مثل ما قال لعمرو.
فقال أبو موسى: « أراكم أثبت الناس رأيا، فيكم بقية المسلمين. » فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. فلقى الذين قال لهم ما قال، من ذوي الرأي من قريش، فقال: « لا يجتمع هذان أبدا على أمر واحد. » فلما اجتمع الحكمان وتكلّما قال عمرو بن العاص: « يا با موسى، أرأيت أول ما تقضى به من الحقّ أن تقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم. » قال أبو موسى: « وما ذاك؟ » قال عمرو: « ألست تعلم أنّ معاوية وفي، وقدم للموعد الذي واعدناه؟ » قال: « نعم. » قال: « أكتبها. » فكتبها أبو موسى.
ذكر الخديعة التي خدع بها عمرو أبا موسى

قال عمرو: « يا أبا موسى، أنت على أن تسمّي رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسمّ لي، فإني أقدر أن أتابعك، منك، على أن تتابعني. » قال أبو موسى: « أسمّى لك عبد الله بن عمر. » وكان ابن عمر في من اعتزله. فقال عمرو: « فأنا أسمّي لك معاوية بن أبي سفيان. »
رواية أخرى في ذلك

وفي رواية أخرى: أنّ عمرا قال لأبي موسى: « ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما؟ » قال: « أشهد. » قال: « ألست تعلم أنّ معاوية وليّ دم عثمان؟ » فقال: « بلى. » قال: « فإنّ الله قال: ومن قتل مظلوما، فقد جعلنا لوليّه سلطانا. » فما يمنعك من معاوية وليّ دم عثمان، وهو من عرفت بيته في قريش، وهو الحسن السياسة، الصحيح التدبير، وهو أخو أمّ حبيبة، أمّ المؤمنين، وهو أحد الصحابة وكاتب الوحى. » فقال له أبو موسى: « أما ذكرت من شرفه وبيته، فإنّ هذا الأمر ليس بالشرف يولّاه أهله، ولو كان بالشرف، كان لآل أبرهة بن الصباح، إنما هو لأجل الدين والفضل. » قال: « فاخلع صاحبك، حتى أخلع صاحبي، ثم نتّفق. » فاجتمعا على ذلك، وخرجا إلى الناس، وقالا: قد اتّفقنا.
فقال أبو موسى لعمرو: « تقدّم، فاخلع صاحبك بحضرة الناس. » فقال عمرو: « سبحان الله! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك؟ تقدّم أنت. » فقدّمه، فقال أبو موسى: « إنّا - والله، أيها الناس - قد اجتهدنا رأينا، ولم نأل الإسلام وأهله خيرا، ولم نر أصلح لهذه الأمة من خلع هذين الرجلين، وقد خلعت عليّا ومعاوية كخلع خاتمي هذا. » فقام عمرو، فقال: « لكني خلعت صاحبه عليّا كما خلع، وأثبتّ معاوية. » فلم يبرحا حتى استبّا.
ذكر من خالف علي بن أبي طالب في رأيه وأشار بالحرب عليه وما كان من جوابه واعتذاره

لما انصرف عليّ بن أبي طالب من صفّين، كثر خوض الناس، وخالفه القوم الذين صاروا خوارج، وكانوا طول طريقهم يتدافعون، ويتضاربون بالسياط. فلما صاروا إلى النّخيلة ورأوا سور الكوفة لقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري، ودنا منه، وسلّم عليه، وسايره، فقال له: « ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ »
قال: « منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، كما قال الله عز وجل: ولا يزالون مختلفين، إلّا من رحم ربّك. » فقال له: « فما قول ذي الرأي فيه. » فقال: « أما قول ذي الرأي فيه، فيقولون: إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه، وكان له حصن حصين فهدمه. فحتى متى يبنى ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرّق. فلو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك، كان ذلك الحزم. » فقال عليّ: « أنا هدمت أم هدموا، أنا فرّقت أم فرّقوا؟ أما قولهم: إنّه لو كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك كان ذلك الحزم، فوالله ما غبي ذلك عليّ، وإني كنت سخيّا بنفسي عن الدنيا طيّب النفس بالموت. ولقد هممت بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدرانى - يعنى الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعنى محمد بن عليّ وعبد الله بن جعفر - فعلمت أنه إن هلكا انقطع نسل محمد، فكرهت ذلك، وأشفقت على هذين أن يهلكا. وأيم الله، لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينّهم وليس معي أحد منهم. »
بكاء النساء على القتلى وما قاله علي لابن شرحبيل

ثم مضى غير بعيد، فمرّ بالشباميّين، فسمع رجّة شديدة وبكاءا كثيرا، فوقف، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له عليّ: « أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهنهونهنّ عن هذا الرنين؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، لو كانت دارا أو دارين، قدرنا على ذلك، ولكنّه قتل من هذا الحيّ مائة وثمانون قتيلا، ليس دار إلّا فيها بكاء. فأما نحن معاشر الرجال، فإنّا لا نبكي، ولكننا نفرح، أمّا نفرح بالشهادة. » فقال: « رحم الله قتلاكم وموتاكم ».
فأقبل يمشى معه وعليّ راكب. فوقف وقال له: « إرجع، فإنّ مشى مثلك معي فتنة للوالي، ومذلّة للمؤمن. »
مروره بالناعطيين وما قاله فيهم

ثم مضى، حتى مرّ بالناعطيّين، فسمع رجلا منهم يقال له: عبد الرحمن بن مزيد، يقول لآخر: « والله ما صنع عليّ شيئا: ذهب، ثم انصرف في غير شيء. » فلما نظروا إلى عليّ أبلسوا، فقال: « وجوه ما رأوا الشام. » ثم أقبل على أصحابه، فقال: « قوم فارقناهم آنفا، خير من هؤلاء. » ثم أنشد:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمّة ** من الدهر، لم يبرح لبثّك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعّبت ** عليك أمور ظلّ يلحاك دائما
ثم مضى، فلم يزل يذكر الله، حتى دخل القصر.
تشاتم القوم واضطرابهم بالسياط

ثم إنّ القوم الذين كانوا معه يتشاتمون طول طريقهم، ويضطربون بالسياط، ويقول بعضهم لبعض: « أدهنتم في أمر الله، وحكّمتم. » ويقول قوم: « فرّقتم جماعتنا، وفارقتم إمامنا. »
مفارقة الخوارج عليا نزولهم بحرورى وعدم دخولهم الكوفة مع علي

لم يدخلوا معه الكوفة حتى أتوا حروري، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا.
فنادى مناديهم: « إنّ أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. »
ما دار بين شيعة علي والخوارج عند دخوله الكوفة

ولما دخل عليّ الكوفة، وفارقته الخوارج، وثبت إليه شيعته وقالوا: « في أعناقنا لك بيعة ثانية. نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت. » فقال بقيّة الخوارج: « استبقتم أنتم وأهل الشام في الكفر، كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا، وبايعتم عليّا [ على ] أنكم أولياء من والى، وأعداء من عادى. » فقال لهم زياد بن النضر: « والله يا قوم، ما بسط عليّ يده فبايعناه قطّ، إلّا على كتاب الله وسنّة نبيه، ولكنّكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت. ونحن كذلك، وهو هاد، ومن خالفه ضالّ. »