بين معاوية وهانئ

حكى الشعبيّ: أنّ وفد الكوفة قدموا على معاوية لمّا أراد البيعة ليزيد، وفيهم هانئ بن عروة المرادي. فبينا أنا جالس إذ قال هانئ بن عروة: « العجب من معاوية، يريد أن يقسرنا على بيعة ابنه يزيد، وحاله حاله، وما ذاك بكائن. »
وغلام من قريش قاعد في حلقته، فقام، فدخل على معاوية، فأخبره بقول هانئ، فقال له: « أنت سمعت هانئا يقوله؟ » قال: « نعم. » قال: « فاخرج من هذا الباب وائت حلقته من باب من أبواب المسجد، غير بابك الذي خرجت منه، فقل له إذا خفّ من عنده: « أيّها الشيخ! قد سمعت مقالتك، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، ولا أحبّ لك أن تتكلّم بهذا الكلام، فإنّهم بنو أميّة، وجرأتهم جرأتهم، وإقدامهم ما قد علمت. » ثم قال له معاوية: «.. إذا فرغت من كلامك، فقل له: إنه لم يدعني إلى هذا، إلّا النصيحة لك. ثم احفظ عليه ما يقول. » فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلما خفّ من عنده، دنا منه، فكلّمه بهذا الكلام.
فقال له: « يا بن أخي، والله ما بلغت نصيحتك لي كلّ هذا، وإنّ هذا الكلام لكلام معاوية، وأعرفه، وأشهد به. » فقال الفتى: « ما أنا ومعاوية! والله ما يعرفني، ولا يدرى من أنا. » قال: « يا بن أخي، فلا عليك، ولكن إذا لقيته فقل له: يقول لك هانئ: لا والله، لا إلى ما أردت من سبيل، انهض يا بن أخي! » فذهب الفتى، فأعلم معاوية ما قال، فقال: « بالله نستعين عليه. » ثم أذن للوفد، وقال لهم: « ارفعوا حوائجكم. » ففعلوا، فلما عرض كتاب هانئ على معاوية، قال: « يا هانئ ما صنعت شيئا، فزد. » فزاد هانئ ومعاوية يقول: « ما صنعت شيئا، هات حوائجك! » حتى لم يدع حاجة لمن يهتمّ به إلّا رفعها وقضاها. ثم قال: « يا هانئ لم تصنع شيئا. » فقال: « يا أمير المؤمنين، قد بقيت حاجة. » قال « وما هي؟ » قال: « بيعة يزيد، أتولّاها له بالعراق. » قال: « هي إليك. » فقدم هانئ، فقام بأمر يزيد، وتولّى المغيرة بن شعبة البيعة.
من تشبه بمعاوية في ذلك

وتشبّه بمعاوية عبد الملك، وذلك أنه لمّا أراد البيعة للوليد، وجّه الوليد إلى القين، وعاملة، فأصلح بينهم، وكانت بينهما دماء، فاحتملها. فكانت القين وعاملة أوّل من دعا إلى الوليد.
ثم أراد الوليد ذلك عبد العزيز ابنه، فوجّهه إلى قيس بن غسّان، وكانت بينهما دماء، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانت قيس وغسّان أوّل من دعا إلى عبد العزيز.
ثم صنع ذلك سليمان لمّا وقع بين قيس وحمير بدمشق من الدماء ما وقع.
وجّه ابنه أيّوب، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، ومات أيّوب قبل أن تظهر له بيعة.
ثم صنع ذلك يزيد بن عبد الملك. كتب إليه ابن هبيرة من الجزيرة، يشير عليه:
أن يوجّه الوليد بن يزيد، ليصلح ما بين قيس وتغلب. فوجّهه، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانوا أوّل من تكلّم في أمر الوليد، وذلك في حياة أبيه، حتى بايع بعد هشام له.
كلام لمعاوية

وقال معاوية:
« إني لأرفع نفسي، أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني. »
أيام يزيد بن معاوية وما جرى فيها من الأحداث التى يليق ذكرها بهذا الكتاب

وصايا معاوية ليزيد

كان معاوية وطّأ لابنه يزيد الأمور، وأخذ على الوفود له البيعة، فلما مرض المرضة التي توفّى فيها، دعا به وقال:
« إني لا أتخوّف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك، إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
« فأمّا عبد الله بن عمر، فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره، بايعك..
« وأما حسين بن عليّ، فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت عليه، فاصفح عنه، فإنّ له رحما ماسّة، وحقّا عظيما..
« وأمّا ابن أبي بكر، فرجل ليست له همّة إلّا في النساء، واللهو.
« وأمّا الذي يجثم عليك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، فقدرت عليه، فقطّعه آرابا. »
فلما مات معاوية امتنع هؤلاء من البيعة، وخرج عبد الله بن الزبير والحسين إلى مكّة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذ بالمدينة. وأما عبد الله بن عمر، فلم يتشدّد عليه، وكذلك عبد الرحمن بن أبي بكر.
فلما قدم عبد الله بن الزبير والحسين مكّة، اجتمع الناس على الحسين، وابن الزبير قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّى عندها عامة نهاره ويطوف، ثم يأتى الحسين في من يأتى، ولا يزال يشير عليه بالرأي، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يطيعونه، ولا يبايعونه أبدا، ما دام الحسين بالبلد، وأنّ الحسين أعظم في نفوسهم، وأعينهم منه، وأطوع في الناس منه.
وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد، وأنه لحق بمكّة، فأرجفوا بيزيد.
ذكر رأي أشير به على الحسين بن علي عليهما السلام

كان عبد الله بن مطيع لقي الحسين، وهو يريد مكّة، فقال: « جعلني الله فداءك، أين تريد؟ » قال: « أما الآن، فإني أريد مكّة، وأما بعد، فإنى أستخير الله عز وجل. » قال: « خار الله لك، وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكّة، فإيّاك أن تقرب الكوفة، فإنّها بلدة مشؤومة قتل بها أبوك، وخذل فيها أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه. الزم الحرم، فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى الناس إليك من كلّ جانب. »