الحر بن يزيد يقبل بخيله

وأقبل الحسين، حتى نزل شراف، وأمر فتيانه فاستقوا من الماء، ثم ساروا صدر يومهم. فقال رجل: « الله أكبر. »
فقال الحسين: « الله أكبر، ممّ كبّرت؟ »
قال: « رأيت النخل. »
فقال رجلان أسديّان كانا معه: « إنّ هذا مكان ما رأينا به نخلا قطّ. »
قال الحسين: « فما تريانه رأى. »
فقالا: « نراه والله رأى هوادي الخيل. »
فقال: « وأنا، والله، أرى ذلك. »
فقال الحسين: « أما لنا ملجأ نعدل إليه، نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ »
قال: فقلنا له: « نعم، هذا ذو حسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك. »
فأخذ إليه، ومال أصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيّنّاها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطريق، عدلوا، كأنّ أسنّتهم اليعاسيب، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فسبقناهم، فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهم ألف رجل، مع الحرّ بن يزيد التميمي.
فأقبل حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه في حرّ الظهيرة، فأمر الحسين أن يسقى القوم، فقام فتيانه يسقون الخيل بالأتوار والطساس حتى أرووها.
فكان سبب تقدّم الحرّ في ألف رجل أنّ عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شرطه، على أن ينزل القادسيّة، وينظّم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدّم الحرّ هذا بين يديه في ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يرد عليه الخبر.
فحضرت الصلاة، فأذّن مؤذّن الحسين، ثم أقام. فخرج الحسين في إزار ونعلين، وقال:
« أيّها الناس، معذرة إلى الله، وإليكم. إني لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت عليّ رسائلكم أن اقدم علينا، فإنّه ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم. »
فسكتوا عنه.
فقال الحسين للحرّ: « أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ »
قال: « لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. »
فصلّى بهم الحسين، وانصرف الحرّ إلى مكانه، وأخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته، وجلس في ظلّها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيّأوا للرحيل، ففعلوا. ثم إنّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلّى بالقوم، ثم سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريبا من مقالته الأولى.
فقال الحرّ: « إنّا، والله، لا ندري هذه الكتب، والرسل التي تذكر. »
فدعا الحسين بخرجين مملوّين كتبا فنشرها بين أيديهم. فقال له الحرّ: « لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنما أمرنا، إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. »
فقال له الحسين: « الموت أدنى إليك من ذلك. »
ثم قال لأصحابه: « انصرفوا بنا. »
فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف.
فقال الحسين للحرّ: « ثكلتك أمّك، ما تريد؟ »
قال: « أما والله، لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمّه، كائنا من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمّك، إلّا بأحسن ما نقدر عليه. »
فقال له الحسين: « فما تريد؟ »
قال: « أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. »
فقال له الحسين: « إذا لا أتبعك. »
فقال له الحرّ: « إذا لا أدعك. »
فترادّا القول: فلمّا طال الكلام، قال الحرّ: « إني لم أومر بقتالك، إنّما أمرت ألّا أفارقك حتى تقدم الكوفة. فإذا أتيت حيطانها، فخذ طريقا لا يدخلك المدينة، ولا يؤدّيك إليها، ولا يردّك عنها يكون بيني وبينك نصفا، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أردت، أو إلى ابن زياد، إن أردت، فلعلّ الله يأتى بأمر يرزقني فيه العافية أن أبتلى بشيء من أمرك. »
فتراضيا، وتياسر الحرّ عن طريق القادسيّة، وسايره الحسين. وأخذ الحسين يخطب القوم ويذكّرهم الله، ويدلّهم على نفسه ومكانه عن النبوّة والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة.
فقال له الحرّ، وهو يسايره: « يا حسين! أذكّرك الله في نفسك، فو الله، لئن قاتلت لتقتلنّ. »
فقال له الحسين: « أبالموت تخوّفني؟ » وأنشده أبياتا، وهي أبيات تمثّل بها:
سأمضى، فما بالموت عار على الفتى ** إذا ما نوى حقّا، وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ** وفارق شرّا أن يعيش ويرغما
فكان يسير الحرّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفرسان، فعدلوا إلى الحسين، فسلّموا عليه، فمنعهم الحرّ أن يسيروا معه.
فقال الحسين: « ما لك تمنعهم؟ »
فقال الحرّ: « هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أهل الكوفة. »
قال الحسين: « هم بمنزلة من جاء معي، فإنّهم أنصاري وأعواني، وقد أعطيتني ألّا تعرض لي بشيء، حتى آتى الكوفة. فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك، وإلّا ناجزتك. »
قال: وكفّ عنهم الحرّ.
فقال الحسين للقوم: « أخبرونى خبر الناس وراءكم. »
فقالوا: « أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، واستميل ودّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألّب عليك، وأمّا سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك. »
قال: « فخبّروني عن رسولي إليكم. »
فقالوا: « من هو؟ »
قال: « قيس بن مسهر الصيداوي. »
فقالوا: « نعم، أخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك ولعن أبيك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك، وأخبرهم بمقدمك، فأمر به ابن زياد، فألقى من طمار القصر، فمات. »
فتغرغرت عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.