ذكر خبر جرجيس

وكان جرجيس - فيما ذكر - عبدًا لله صالحًا من أهل فلسطين، ممن أدرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجرًا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على أهل المسكنة. وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشأم كله، وكان جبارًا عاتيًا لا يطيقه إلا الله تعالى.
وكان جرجيس رجلًا صالحًا ممن أهل فلسطين، وكان مؤمنًا يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم، وكان جرجيس كثير المال. عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء؛ حتى يصير فقيرًا، ثم يضرب الضربة فيصيب مثل ماله أضعافًا مضاعفة؛ فكانت هذه حاله في امال. وكان إنما يرغب في المال، ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة؛ لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى.
وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه؛ فخرج يؤم ملك الموصل، ومعه مالٌ يريد أن يهديه له؛ لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه سلطانًا دونه؛ فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم؛ وقد أوقد نارًا، وقرب أصنافًا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم يقال له: " أفلون منصب "، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف ذلك العذاب. فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع به وأعظمه. وحدث نفسه بجهاده، وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في أهل ملته حتى لم يبق منه شيئًا؛ وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه؛ فأقبل عليه عند ما كان أشد غضبًا وأسفًا. فقال له: أعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئًا ولا لغيرك، وأن فوقك ربًا هو الذي يملكك وغيرك، هو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي يحيك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه - قال له: كن فكان - أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله شيئًا. فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه عباد الله، ودعوته ربًا.
فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا تصلح عبادته. فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه جرجيس أن قال: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير. وأخبره مالذي جاء به وحاله. وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان. وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده. وقال: لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئي عليك أثره كما ترى أثري على من حولي من ملوك قومي.
فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره. وقال له - فيما قال: أين تجعل طرقبلينا، وما نال بولايتك؛ فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس كان بدؤه آدميًا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت له الريش، وألبسه النور، فصار إنسيًا ملكيًا، سمائيًا أرضيًا، يطير مع الملائكة. وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فإنه عظيم قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإنه الله فضله على رجال العالمين، وجعله وأمه آية للمعتبرين. ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة. وقال أيضًا: وحدثني: أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها إلى إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك: إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتي بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما؛ حتى أنظر إليهما، وأعتبر بهما؛ فإني أنكر أن يكون هذا في البشر.
فقال له جرجيس: إنما جاءك افنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما ولن يرياك؛ إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما.
فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك. وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت عنها، ولم تأت بتصديقها. ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلون، فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء - وعدد عليه أشياء من قدرة الله - فقد صبت ونصحت لى، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه ويسب آلهته غضب من قوله غضبًا شديدًا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط الحديد، فخدش بها جسده حتى تقطع لحمه وجلده وعروقه، ينضج خلال ذلك بالخل والخردل. فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارًا، أمر بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه. فلما ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى إذا جعله نارًا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى برد حره.
فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربًا هو أولى بك من نفسك! قال: بلى قد أخبرتني، قال: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك. فلما قال له ذلك أيقن بالشر، وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقًا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن يشغله عن كلام الناس. فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد. في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره. حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلًا فلم يلقوه، ثم ثمانية عشر رجلًا فأقلوه؛ فظل يومه ذلك موتدًا تحت الحجر.
فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكًا - وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي - فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له: الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده؛ فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك؛ فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك. فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس على رءوسهم يدعوهم إلى الله. فقال له الملك: أجرجيس! قال: نعم، قال: من أخرجك من السجن؟ قال أخرجني الذي سلطانه فوق سلطانك. فلما قال له ذلك ملىء غيظًا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئًا، فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعًا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته، وهم يسمعون. فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفًا على مفرق رأسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، قم عمدوا إلى جزلتيه، فقطعوهما قطعًا. وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفًا من أصناف عذابه، ثم رموا بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى؛ فظل يومه ذلك ميتًا. فكانت أول ميتة ذاقها. فلما أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض. حتى سواه. ثم رد فيه روحه وأرسل ملكًا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه. وبشره وعزاه. فلما أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أن القدرة التي خلق آدم بها من تراب التي هي أخرجتك من قعر الجب. فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق جهاده، ومت موت الصابرين.