قريتي ... والصور المتحركة في الذهن

من سكك قريتي ومن شعاب واديها تمخضت ذاكرتي بنزف مداد قلمي ,أمشي فيها الآن ووقفت أمام عتبة بيت جارنا, أطرقه فلا يرد علّي أحد من داخله, أتخطاه إلى غيره, وهكذا كلما طرقت باباً ورفعت الصوت عاد إلّي أن لا أحد !!
ظللت أسير في أسواق القرية أبحث عن أهلي في مساجدهم أو في مقهى القرية العام أوفي مكان اللقاء بينهم الذي تعارفوا عليه فلا أجد غير الذكريات والصور المتحركة في الذهن.
وقفت طويلاً على مدخل السوق العام استعرض في خيالي هذه الصور واحدة واحدة في المرأة والرجل , في الطفل والشيخ , تلاحقت الصور فإذا أعياد القرية وأفراحها وأعراسها تلحق بي فأنجذب إليها انجذاب الأماني في جيب مفلس ظنها سادة لعوزه .
درجت بي قدم الذكريات في أسواق القرية فرأيت أهلها قد حوَّلوها إلى دار ضيافة ودار فرح وعناق ومحبة’ رأيت القرية يعانق بعضها بعضاَ لابسة زينتها , والزينة هنا مجرد ثوب بسيط لا تتعدى قيمته بضع ريالات تلبسه المرأة والرجل, يعدونه ليوم عيدهم, لا شئ يثير الأحقاد والبغضاء , لا طبقة تعلو على طبقة, الإيثار والمحبة والصفاء فطرة القرية وإنسان القرية , البساطة فارشة رداءها من سعف النخيل أو من سعف النفس الذي لم تفجر به أعاصير الغضب والكره .
طرقت بيت عمرو ثم بيت أخيه زيد فردت علّي أصداء النفس أن قد رحلوا , حاولت أن أقص الأثر فإذا الرياح قد كنسته , فاضت العبرات وتساقطت الدموع وتثاقل القدم يوم أثقلته الهموم .
ذهبت إلى مزرعة الصديق والفلاح , لعلِّي أجد هناك من يعطيني الخبز ويبقيني ضيفاً عليه, وعندما لم أجد غير النخلات ساكنة رياحها لا تميل واحدة إلى أختها , ساءلتُ نفسي , أهنّ حزينات مثلي؟ .. وعلى ماذا؟ ...أتراهن صرن إلى ماضٍ عند تقدمية العصر؟
لا أدري ولكن القرية التي كانت دنيانا وكانت عالمنا وكانت مسجدنا الذي يصلنا بالسماء ويستر عوراتنا ويجمع شتات نفوسنا هي اليوم في خاطري ذكريات!! وإن قام على الكوخ القصر وعلى الظلام النور , هي في خاطري جرح ينزف ألماً , أجمع له أقداح القرية التي كانت مملوءة كرماً وعطاء لأصبّه فيها حتى لا ينطرح على التراب.
ولأن الجرح عميق أختار لذكرياتي أبعدها في مسار النفس , أذهب إليها في ملاعب صباي فأرى الرفقاء واحداً واحداً يتراكضون في خاطري على قيعان القرية فتجثو الذكرى على ركب الألم تحتضن الصورة التي لم يبق معي غير ظلالها.
فـ قرية الأمس غير قرية اليوم , ومدينة الأمس غير مدينة اليوم, وإنسان اليوم لا يمكن أن نعود به على إنسان الأمس, لكلٍ مساره وزمانه ومكانه, غير أني أحلم في ذكرياتي بالماضي ولا اضطجع على فراش الحاضر الوثير وأنبهر به. فالأحلام والاضطجاع في خدر لا يقظة معه جدار من الرمال أقامه الوهم فسقط فذرته الرياح.
وظني بالحياة والإنسان والكون وما هو فينا , ما كان باطناً أو ظاهراً ما كان محسوساً أو غير محسوس, ما هجس له الإنسان أو ظنه يقيناً , لا قرابة بيننا وبينه , ولا نسب ولا صداقة, ولا إيمان ولا نكران , إذا لم يعطنا السعادة ويمنحنا الأمل . وهنا مكان القدم الذي أقف عليه ومنه أتحرك.
والحركة أين هي ذاهبة بي ؟
أهي آخذتني إلى المستقبل أم واقفة بي على الحاضر أم عائدة بي إلى الوراء؟؟؟؟

الحاضر مليء وفائض قدحه بمياه المادة إلى حد أراني ملامح النفاق والخداع في أكثر ما أراه!!!!

المستقبل هو الآخر يداعب خيالي بأحلى الأماني , أراه يفتح لي ذراعيه , يشير إلَّي أن أسرع ....فما عندي لك يفوق ما لديك , خزائن قارون وملذات أبيقور واقفة على عتبة الباب تفتحه لي على مصراعيه .

وذكريات الماضي تجذبني إليها وتشدني بعنف أن لا تخط خطوة واحدة داخل البيت, عد معنا إلى الماضي فهناك تلقى معنى السعادة , ومعنى الإنسان ومعنى الحياة .....!

ما أكثر الصور الخيالية ولعلي استطيع أن أتكيّف بمثالية مع الحاضر الذي أذهلني يوم زرت قريتي ورأيت كل ما فيها قد تبدّل وتغيّر !