فصار حكم العلامة التي للكاتب ملغى و صورتها ثابتة إتباعاً لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يضعه و يتخير له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له و يضع العلامة المعتادة و قد يختص السلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمر قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته و من خطط الكتابة التوقيع و هو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه و فصله و يوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ و أبلغه فإما أن تصدر كذلك و إما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة و يحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه و قد كان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد و يرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة و فنونها حتى قيل أنها كانت تباع كل قصة منها بدينار و هكذا كان شأن الدول، و اعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد من أن يتخير أرفع طبقات الناس و أهل المرؤة و الحشمة منهم و زيادة العلم و عارضة البلاغة فأنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك و مقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب و التخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل و تطبيق مقاصد الكلام من البلاغة و أسرارها و قد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته و سائر رتبه فيقلد المال و السيف و الكتابة منهم فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم
و أما المال و الكتابة فيضطر إلى ذلك البلاغة في هذه و الحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة و يقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده و يكون نظره منصرفاً عن نظره كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم و إن كانت لصاحب الإنشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار و تعويل السلطان و وثوقه به و استنامته في غالب أحواله إليه و تعويله على الآخر في أحوال البلاغة و تطبيق المقاصد و كتمان الأسرار و غير ذلك من توابعها. و أما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره و انتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة و أحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب و هي: أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة و حاطكم و وفقكم و أرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء و المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين و من بعد الملوك المكرمين أصنافاً و إن كانوا في الحقيقة سواء و صرفهم في صنوف الصناعات و ضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم و الجواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب و المرؤات و العلم و الرزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها و تستقيم أمورها و بنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم و تعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم و لا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون و أبصارهم التي بها يبصرون و ألسنتهم التي بها ينطقون و أيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فصل صناعتكم و لا نزع عنكم ما أضفاه من النغمة عليكم و ليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة و خصال الفضل المذكورة المعدودة منهم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج في نفسه و يحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف و العدل و الإنصاف كتوماً للأسرار و فياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها و الطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه و إن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله و حسن أدبه و فضل تجربته
ما يرد عليه قبل وروده و عاتبة ما يصدر عنه قبل صدور فيعد لكل أمر عدته و عتاده و يهيء لكل وجه هيئته و عادته فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب و تفقهوا في الدين و ابدأوا بعلم كتاب الله عز و جل و الفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم و ارووا الأشعار و اعرفوا غريبها و معانيها و أيام العرب و العجم و أحاديثها و سيرها فإن ذلك معين لهم على ما تسمو إليه هممكم و لا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج و ارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها و دنيها و سفساف الأمور و محاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب و نزهوا صناعتكم عن الدناءة و اربأوا بأنفسكم عن السعاية و النميمة و ما فيه أهل الجهالات و إياكم و الكبر و السخف و العظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة و تحابوا في الله عز و جل في صناعتكم و تواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل و العدل و النبل من سلفكم و إن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه و آسوه حتى يرجع إليه حاله و يثوب إليه أمره و إن أقعد أحداً منهم الكنز عن مكسبه و لقاء إخوانه فزوروه و عظموه و شاوروه و استظهروا بفضل تجربته و قديم معرفته
و ليكن الرجل منكم على من اصطنعه و استظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده و أخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصفها إلا إلى صاحبه و إن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه و ليحذر السقطة و الزلة و الملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء و هو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبة من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه و شكره و احتماله و خيره و نصيحته و كتمان سر و تدبير أمر ما هو جزاء لحقه و يصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه و الاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك و فقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء و الشدة و الحرمان و المؤاساة و الإحسان و السراء و الضراء فنعمت السيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة و إذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله و عياله أمر فليراقب الله عز و جل و ليؤثر طاعته
و ليكن على الضعيف رفيقاً و للمظلوم منصفاً ( فإن الخلق عيال الله و أحبهم إليه أرفقهم بعياله ) ثم ليكن بالعدل حاكماً و للأشراف مكرماً و للفيء موفراً و للبلاد عامراً و للرعية متألفاً و عن أذاهم متخلفاً و ليكن في مجلسه متواضعاً حليماً و في سجلات خراجه و استقضاء حقوقه رفيقاً و إذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها و قبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن و احتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة و أجمل و سبيلة و قد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصير بسياستها التمس معرفة إخلاقها فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها و إن كانت شبوباً أتقاها من بين يديها و إن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها و إن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها و في هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس و عاملهم و جربهم و داخلهم و الكاتب يفضل أدبه و شريف صنعته و لطيف حيلته و معاملته لبن يحاوره من الناس و يناظره و يفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه و مداراته و تقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً و لا تعرف صواباً و لا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر و اعملوا ما أمكنكم فيه من الروية و الفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة و الاستثقال و الجفوة و يصير منكم إلى الموافقة و تصيروا منه إلى المؤاخاة و الشفقة إن شاء الله.
و لا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه و ملبسه و مركبه و مطعمه و مشربه و بنائه و خدمه و غير ذلك من فنون أمر قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير و حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع و التبذير و استعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم و قصصته عليكم و احذروا متالف السرف و سوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر و يذلان الرقاب و يفصحان أهلهما و سيما الكتاب و أرباب الآداب و للأمور أشباه و بعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجةً و أصدقها حجةً و أحمدها عاقبةً و اعلموا أن للتدبير آفة متلفة و هو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه و رويته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه و ليوجز في ابتدائه و جوابه و ليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله و مدفعه للتشاغل عن إكثاره و ليضرع إلى الله في صلة توفيقه و إمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه و عقله و أدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته و قوة حركته إنما هو بفصل حيلته و حسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف و ذلك على من تأمله غير خاف و لا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور و أحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته و مصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره و رأى أن أصحابه أعقل منه و أحمد في طريقته و على كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثنأوه من غير اغترار برأيه و لا تزكية لنفسه و لا يكاثر على أخيه أو نظيره و صاحبه و عشيره و حمد الله واجب على الجميع و ذلك بالتواضع لعظمته و التذلل لعزته و التحدث بنعمته و أنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النصيحة يلزمه العمل و هو جوهر هذا الكتاب و غره كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخره و تممته به تولانا الله و إياكم يا معشر الطلبة و الكتبة بما يتولى به من سبق عليه بإسعاده و إرشاده فإن ذلك إليه و بيده و السلالم عليكم و رحمة الله و بركاته.

( الشرطة ) و يسمى صاحبها لهذا العمل بأفريقية الحاكم و في دولة أهل الأندلس صاحب المدينة و في دولة الترك الوالي. و هي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة و حكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان و كان أصل و ضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال اسبدادها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها و للسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد و باستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة و ربما جعلوا إليه النظر في الحدود و الدماء بإطلاق، و أفردوها من نظر القاضي و نزهوا هذه المرتبة و قلدوها كبار القواد و عظماء الخاصة من مواليهم و لم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدماء و أهل الريب و الضرب على أيدي الرعاع و الفجرة. ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس و نوعت إلى شرقي كبرى و شرطة صغرى و جعل حكم الكبرى على الخاصة و الدماء و جعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية و الضرب على أيديهم في الظلامات و على أيدي أقاربهم و من إليه من أهل الجاه و جعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة و نصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان و رجال يتبوؤن المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه و كانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة و الحجابة. و أما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه إن لم يجعلوها عامة و كان لا يليها إلا رجالات الموحدين و كبراؤهم و لم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية ثم فسد اليوم منصبها و خرجت عن رجال الموحدين و صارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين.
و أما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليه و أهل اصطناعهم و في دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الترك يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة و المضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد و حسم أبواب الدعارة و تخريب مواطن الفسوق و تفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية و السياسة كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة و الله مقلب الليل و النهار و هو العزيز الجبار و الله تعالى أعلم.