صار إلى مذهب أهل الظاهر و مهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. و خالف إمامهم داود و تعرض للكثير من الأئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه و أوسعوا مذهبه استهجاناً و إنكاراً، و تلقوا كتبه بالإغفال و الترك حتى إنها ليحصر بيعها بالأسواق و ربما تمزق في بعض الأحيان. و لم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق و أهل الحديث من الحجاز. فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت و مقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلده و خصوصاً مالك و الشافعي. و أما أهل الحجاز فكال إمامهم مالك ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى و اختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره و هو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم و اقتدائهم. و هكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الآخذين ذلك عنه و صار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. و ظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة. و اعلم أن الإجماع إنما هو الإتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. و مالك رحمه الله تعالى لم يعتير عمل أهل المدينة من هذا المعنى و إنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله و سلامه عليه. و ضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع و الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها و بين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر و اجتهاد في الأدلة و اتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. و لو ذكرت المسألة في باب فعل النبي صلى الله عليه و سلم و تقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي و شرع من قبلنا و الاستصحاب لكان أليق بها ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهم االله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك و له أصحاب الإمام أبي حنيفة و أخذ عنهم و مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق و اختص بمذهب، و خالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. و جاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. و كان من علية المحدثين و قرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر. و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة و درس المقلدون لمن سواهم. و سد الناس باب الخلاف و طرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد و لما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله و من لا يوثق برأيه و لا بدينه فصرحوا بالعجز و الإعواز و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين. و حظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب و لم يبق إلا نقل مذاهبهم. و عمل كل فقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده و قد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد و أصالته في معاضدة الرواية و للأخبار بعضها ببعض. و أكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها و هم أكثر الناس حفظاً للسنة و رواية الحديث و ميلاً بالإستنباط إليه عن القياس ما أمكن. و كان لهم ببغداد صولة و كثرة حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. و عظمت الفتنة من أجل ذلك ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. و لم يراجع و صارت كثرتهم بالشام. و أما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق و مسلمة الهند و الصين و ما وراء النهر و بلاد العجم كلها.. و لما كان مذهبه أخص بالعراق و دار السلام و كان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفه و مناظراتهم مع الشافعية و حسنت مباحثهم في الخلافيات. و جاءوا منها بعلم مستظرف و أنظار غريبة و هبى بين أيدي الناس. و بالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربي و أبو الوليد الباجي في رحلتهما. و أما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها و قد كان انتشر مذهبه بالعراق و خراسان و ما وراء النهر و قاسموا الحنفية في الفتوى و التدريس في جميع الأمصار. و عظمت مجالس المناظرات بينهم و شحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق و أقطاره. و كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. و كان من تلميذه بها: البويطي و المزني و غيرهم، و كان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم و أشهب و ابن القاسم و ابن المواز و غيرهم ثم الحارس بن مسكين و بنوه ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان و أو لاده. ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة و تداول بها فقه أهل البيت و تلاشى من سواهم و ارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد. آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة و التقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، و إظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، و الإغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب فذهب منها فقه أهل البيت و عاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم و رجع إليهم فقه الشافعي و أصحابه من أهل العراق و الشام فعاد إلى أحسن ما كان و نفقت سوقه و اشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام و عز الدين بن عبد السلام أيضاً. ثم ابن الرقعة بمصر و تقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد و هو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. و أما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب و الأندلس. و إن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز و هو منتهى سفرهم. و المدينة يومئذ دار العلم و منها خرج إلى العراق و لم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. و شيخهم يومئذ و إمامهم مالك و شيوخه من قبله و تلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب و الأندلس و قلدوه دون غير ممن لم تصل إليهم طريقته. و أيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب و الأندلس و لم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل