ثم حمل عبد الله بن الطفيل البكائي على جمع لأهل الشأم، فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم - يقال له قيس بن قرة، ممن لحق بمعاوية من أهل العراق - فيضع الرمح بين كتفي عبد الله بن الطفيل، ويعترضه يزيد ابن معاوية، ابن عم عبد الله بن الطفيل، فيضع الرمح بين كتفي التميمي، فقال: والله لئن طعنته لأطعننك، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لئن رفعت السنان على ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! فقال له: نعم، لك بذلك عهد الله؛ فرفع السنان عن ابن الطفيل، ورفع يزيد السنان عن التميمي، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني عامر؛ فقال له: جعلني الله فداكم! أينما ألفكم ألفكم كرامًا، وإني لحادي عشر رجلًا من أهل بيتي ورهطي قتلتموهم اليوم، وأنا كنت آخرهم. فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب على يزيد بن الطفيل في بعض ما يعتب فيه الرجل على ابن عمه، فقال له:
ألم ترني حاميت عنك مناصحًا ** بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى ** على سابحٍ ذي يمعةٍ وهزيم!
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: خرج رجل من أهل الشأم يدعو إلى المبارزة، فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي، ثم الطمحي، فتجاولا ساعة. ثم إن عبد الرحمن حمل على الشأمي فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، ثم نزل إليه فسلبه درعه وسلاحه، فإذا هو حبشي، فقال: إنا لله! لمن أخطرت نفسي! لعبد أسود! وخرج رجل من عك يسأل المبارزة، فخرج إليه قيس بن فهدان الكناني، ثم البدني، فحمل عليه العكي فضربه واحتمله أصحابه فقال قيس بن فهدان:
لقد علمت عكٌّ بصفين أننا ** إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها ** فنوردها بيضًا ونصدرها حمرا
قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج أن قيس بن فهدان كان يحرض أصحابه فيقول: شدوا إذا شددتم جميعًا، وإذا انصرفتم فأقبلوا معًا، وغضوا الأبصار، وأقلوا اللفظ، واعتوروا الأقران، ولا يؤتين من قبلكم العرب. قال: وقتل نهيك بن عزير - من بني الحارث بن عدي وعمرو بن يزيد من بني ذهل، وسعيد بن عمرو - وخرج قيس بن يزيد وهو ممن فر إلى معاوية من علي، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه أخوه أبو العمرطة بن يزيد، فتعارفا، فتواقفا وانصرفا إلى الناس، فأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه.
قال أبو مخنف: حدثني جعفر بن حذيفة من آل عامر بن جوين الطائي، أن طيئًا يوم صفين قاتلت قتالًا شديدًا، فعبيت لهم جموع كثيرة، فجاءهم حمزة بن مالك الهمداني، فقال: ممن أنتم، لله أنتم! فقال عبد الله ابن خليفة البولاني - وكان شيعيًا شاعرًا خطيبًا: نحن طيىء السهل وطيىء الرمل، وطيىء الجبل، الممنوع ذي النخل؛ نحن حماة الجبلين، إلى ما بين العذيب والعين، نحن طيىء الرماح، وطيىء النطاح، وفرسان الصباح. فقال حمزة بن مالك: بخٍ بخٍ! إنك لحسن الثناء على قومك؛ فقال:
إن كنت لم تشعر بنجدة معشرٍ ** فأقدم علينا ويب غيرك تشعر
ثم اقتتل الناس أشد القتال، فأخذ يناديهم ويقول: يا معشر طيىء، فدىً لكم طارفي وتالدي! قاتلوا على الأحساب، وأخذ يقول:
أنا الذي كنت إذا الداعي دعا ** مصممًا بالسيف ندبًا أروعا
فأنزل المستلئم المقنعا ** وأقتل المبالط السميدعا
وقال بشر بن العسوس الطائي ثم الملقطي:
يا طيىء السهول والأجبال ** ألا انهدوا بالبيض والعوالي
وبالكماة منكم الأبطال ** فقارعوا أئمة الجهال
السالكين سبل الضلال
ففقئت يومئذ عين ابن العسوس، فقال في ذلك:
ألا ليت عيني هذه مثل هذه ** فلم أمش في الآناس إلا بقائد
ويا ليتني لم أبق بعد مطرفٍ ** وسعدٍ وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ** إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ** ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
قال أبو مخنف: حدثني أبو الصلت التيمي، قال: حدثني أشياخ محارب، أنه كان منهم رجل يقال له خنثر بن عبيدة بن خالد، وكان من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى أصحابه منهزمين، فأخذ ينادي: يا معشر قيس، أطاعة الشيطان آثر عندكم من طاعة الرحمن! الفرار فيه معصية الله سبحانه وسخطه، والصبر فيه طاعة الله عز وجل ورضوانه، فتختارون سخط الله تعالى على رضوانه، ومعصيته على طاعته! فإنما الراحة بعد الموت لمن مات محاسبًا لنفسه. وقال:
لا وألت نفس امرىءٍ ولى الدبر ** أنا الذي لا ينثني ولا يفر
ولا يرى مع المعازيل الغدر
فقاتل حتى ارتث. ثم إنه خرج مع الخمسمائة الذين كانوا اعتزلوا مع فروة بن نوفل الأشجعي، فنزلوا بالدسكرة والبندنيجين، فقاتلت النخع يومئذ قتالًا شديدًا، فأصيب منهم يومئذ بكر بن هوذة وحيان بن هوذة وشعيب بن نعيم من بني بكر النخع، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي بن قيس أخو علقمة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل علقمة يومئذ، فكان يقول: ما أحب أن رجلي اصح ما كانت، وإنها لمما أرجو به حسن الثواب من ربي عز وجل. وقال: لقد كنت أحب أن أرى في نومي أخي أو بعض إخواني، فرأيت أخي في النوم فقلت: يا أخي، ماذا قدمتم عليه؟ فقال لي: إنا التقينا نحن والقوم، فاحتججنا عند الله عز وجل، فحججناهم، فما سررت منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا.
قال أبو مخنف: حدثني سويد بن حية الأسدي، عن الحضين ابن المنذر، أن أناسًا كانوا أتوا عليًا قبل الوقعة فقالوا له: إنا لا نرى خالد بن المعمر إلا قد كاتب معاوية، وقد خشينا أن يتابعه. فبعث إليه علي وإلي رجال من أشرافنا، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد يا معشر ربيعة، فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حيٍّ في العرب في نفسي، وقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم خالد بن المعمر، وقد أتيت به، وجمعتكم لأشهدكم عليه ولتسمعوا أيضًا ما أقوله. ثم أقبل عليه، فقال: يا خالد بن المعمر، إن كان ما بلغني حقًا فإني أشهد الله ومن حضرني من المسلمين أنك آمنٌ حتى تلحق بأرض العراق أو الحجاز أو أرضٍ لا سلطان لمعاوية فيها، وإن كنت مكذوبًا عليك، فإن صدورنا تطمئن إليك. فحلف بالله ما فعل، وقال جال منا كثير: لو كنا نعلم أنه فعل أمثلناه، فقال شقيق بن ثور السدوسي: ما وفق خالد بن المعمر أن نصر معاوية وأهل الشأم على علي وربيعة؛ فقال زياد بن خصفة التيمي: يا أمير المؤمنين، استوثق من ابن المعمر بالأيمان لا يغدرنك. فاستوثق منه، ثم انصرفنا. فلما كان يوم الخميس انهزم الناس من قبل الميمنة، فجاءنا علي حتى انتهى إلينا ومعه بنوه، فنادى بصوت عالٍ جهير، كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قلنا: رايات ربيعة، فقال: بل هي رايات الله عز وجل، عصم الله أهلها، فصبرهم، وثبت أقدامهم. ثم قال لي: يا فتى، ألا تدني رايتك هذه ذراعًا؟ قلت: نعم والله وعشرة أذرع؛ فقمت بها فأدنيتها، حتى قال: إن حسبك مكانك، فثبت حيث أمرني، واجتمع أصحابي.
قال أبو مخنف: حدثنا أبو الصلت التيمي، قال: سمعت أشياخ الحي من تيم الله بن ثعلبة يقولون: إن راية ربيعة؛ أهل كوفتها وبصرتها، كانت مع خالد بن المعمر من أهل البصرة. قال: وسمعتهم يقولون: إن خالد ابن المعمر وسفيان بن ثور السدوسي اصطلحا على أن وليا راية بكر بن وائل من أهل البصرة الحضين بن المنذر الذهلي، وتنافسا في الراية، وقالا: هذا فتىً منا له حسب، نجعلها له حتى نرى من رأينا.
ثم إن عليًا ولى خالد بن المعمر بعد راية ربيعة كلها. قال: وضرب معاوية لحمير بسهمهم على ثلاث قبائل، لم تكن لأهل العراق قبائل أكثر عددًا منها يومئذ: على ربيعة وهمدان ومذحج، فوقع سهم حمير على ربيعة، فقال ذو الكلاع: قبحك الله من سهم! كرهت الضراب! فأقبل ذو الكلاع في حمير ومن تعلقها، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشأم، وعلى ميمنتهم ذو الكلاع، فحملوا على ربيعة، وهم ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عباس، وهو على الميسرة، فحمل عليهم ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر حملةً شديدة بخيلهم ورجلهم، فتضعضعت رايات ربيعة إلا قليلًا من الأخيار والأبدال. قال: ثم إن أهل الشأم انصرفوا، فلم يمكثوا إلا قليلًا حتى كروا، وعبيد الله بن عمر يقول: يا أهل الشأم، إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنصار علي بن أبي طالب، وإن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم في عثمان وهلك علي بن أبي طالب وأهل العراق، فشدوا على الناس شدةً، فثبتت لهم ربيعة، وصبروا صبرًا حسنًا إلا قليلًا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر منهم والحفاظ، فلم يزولوا، وقاتلوا قتالًا شديدًا. فلما رأى خالد بن المعمر ناسًا من قومه انصرفوا انصرف، ولما رأى أصحاب الرايات قد ثبتوا ورأى قومه قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم، وأمرهم بالرجوع، فقال: من أراد من قومه أن يتهمه؛ أراد الانصراف. فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا وقال هو: لما رأيت رجالًا منا انهزموا رأيت أن أستقبلهم وأردهم إليكم، وأقبلت غليكم فيمن أطاعني منهم، فجاء بأمر مشبه.
قال أبو مخنف: حدثني رجل من بكر بن وائل، عن محرز بن عبد الرحمن العجلي، أن خالدًا قال يومئذ: يا معشر ربيعة، إن الله عز وجل قد أتى بكل رجل منكم من منبته ومسقط رأسه، فجمعكم في هذا المكان جمعًا لم يجمعكم مثله منذ نشرك في الأرض، فإن تمسكوا بأيديكم، وتنكلوا عن عدوكم، وتزولوا عن مصافكم لا يرض الله فعلكم، ولا تقدموا من الناس صغيرًا أو كبيرًا إلا يقول: فضحت ربيعة الذمار، وحاصت عن القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم أن يتشاءم بكم العرب والمسلمون اليوم. وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصيروا محتسبين فإن الإقدام لكم عادة، والصبر منكم سجية، واصبروا ونيتكم صادقة أن تؤجروا، فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا وكرامة الآخرة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا.
فقام رجل من ربيعة فقال: ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت إليك أمورها! تأمرنا ألا نزول ولا نحول حتى تقتل أنفسنا، وتسفك دماءنا! ألا ترى الناس قد انصرف جلهم! فقام إليه رجال من قومه فنهروه وتناولوه بألسنتهم. فقال لهم خالد: أخرجوا هذا من بينكم، فإن هذا إن بقي فيكم ضركم، وإن خرج منكم لم ينقصكم، هذا الذي لا ينقص العدد، ولا يملأ البلد، برحك الله من خطيب قوم كرام! كيف جنبت السداد! واشتد قتال ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت بينهم القتلى، فقتل سمير بن الريان بن الحارث العجلي، وكان من أشد الناس بأسًا.
قال أبو مخنف: حدثني جيفر بن أبي القاسم العبدي، عن يزيد بن علقمة، عن زيد بن بدر العبدي، أن زياد بن خصفة أتى عبد القيس يوم صفين وقد عبيت قبائل حمير مع ذي الكلاع - وفيهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب - لبكر بن وائل، فقوتلوا قتالًا شديدًا، خافوا فيه الهلاك. فقال زياد بن خصفة: يا عبد القيس، لا بكر بعد اليوم. فركبنا الخيول، ثم مضينا فواقفناهم، فما لبثنا إلا قليلًا حتى أصيب ذو الكلاع، وقتل عبيد الله بن عمر رضي الله عنه، فقالت همدان: قتله هانىء بن خطاب الأرحبي؛ وقالت حضرموت: قتله مالك بن عمرو التنعي، وقالت بكر ابن وائل: قتله محرز بن الصحصح من بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، وأخذ سيفه ذا الوشاح، فأخذ به معاوية بالكوفة بكر بن وائل، فقالوا: إنما قتله رجل منا من أهل البصرة، يقال له: محرز بن الصحصح، فبعث إليه بالبصرة فأخذ منه السيف، وكان رأس النمر بن قاسط عبد الله بن عمرو من بني تيم الله بن النمر.
قال هشام بن محمد: الذي قتل عبيد الله بن عمر رضي الله عنه محرز بن الصحصح، وأخذ سيفه ذا الوشاح، سيف عمر، وفي ذلك قول كعب بن جعيل التغلبي:
ألا إنما تبكي العيون لفارسٍ ** بصفين أجلت خيله وهو واقف
يبدل من أسماء أسياف وائلٍ ** وكان فتىً لو أخطأته المتالف
تركن عبيد الله بالقاع مسندًا ** تمج دم الخرق العروق الذوارف
وهي أكثر من هذا. وقتل منهم يومئذ بشر بن مرة بن شرحبيل، والحارث بن شرحبيل، وكانت أسماء ابنة عطارد بن حاجب التميمي تحت عبيد الله بن عمر، ثم خلف عليها الحسن بن علي.
قال أبو مخنف: حدثني ابن أخي غياث بن لقيط البكري أن عليًا حيث انتهى إلى ربيعة، تبارت ربيعة بينها، فقالوا: إن أصيب علي فيكم وقد لجأ إلى رايتكم افتضحتم. وقال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة، لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى علي فيكم وفيكم رجلٌ حي، وإن منعتموه فمجد الحاية اكتسبتموه. فقاتلوا قتالًا شديدًا حين جاءهم علي لم يكونوا قاتلوا مثله، ففي ذلك قال علي:
لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها ** إذا قيل قدمها حضين تقدما
يقدمها في الموت حتى يزيرها ** حياض المنايا تقطر الموت والدما
جزى الله قومًا صابروا في لقائهم ** لدى الموت قومًا ما أعف وأكرما!
وأطيب أخبارًا وأكرم شيمةً ** إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني أنهم أهل نجدة ** وبأسٍ إذا لاقوا جسيمًا عرمرما