وإحدى لياليك راجعتها ** أرقت ولوم سمارها
وما ذاقت العين طعم الرقا ** د حتى تبلج إسفارها
وقام نعاة أبي قاسم ** فأسبل بالدمع تحدارها
فحق العيون على ابن الأشج ** ألا يفتر تقطارها
وألا تزال تبكي له ** وتبتل بالدمع أشفاها
عليك محمد لما ثوي ** ت تبكي البلاد وأشجارها
وما يذكرونك إلا بكوا ** إذا ذمة خانها جارها
وعارية من ليالي الشتا ** ء لا يتمنح أيسارها
ولا ينبح الكلب فيها العقو ** ر إلا الهرير وتختارها
ولا ينفع الثوب فيها الفتى ** ولا ربة الخدر تخدارها
فأنت محمد في مثلها ** مهين الجزائر نحارها
تظل جفانك موضوعة ** تسيل من الشحم أصبارها
وما في سقائك مستنطف ** إذا الشول روح أغبارها
فيا واهب الوصفاء الصبا ** ح إن شبرت تم إشبارها
ويا واهب الجرد مثل القدا ** ح قد يعجب الصف شوارها
ويا واهب البكرات الهجا ** ن عوذا تجاوب أبكارها
وكنت كدجلة إذ ترتمي ** فيقذف في البحر تيارها
وكنت جليدًا وذا مرة ** إذا يبتغي منك إمرارها
وكنت إذا بلدة أصفقت ** وآذان بالحرب جبارها
بعثت عليها ذواكي العيو ** ن حتى تواصل أخبارها
بإذن من الله والخيل قد ** أعد لذلك مضمارها
وقد تطعم الخيل منك الوجي ** ف حتى تنبذ أمهارها
وقد تعلم البازل العيسجو ** ر أنك بالخبث حسارها
فيا أسفي يوم لاقيتهم ** وخانت رجالك فرارها
وأقبلت الخيل مهزومة ** عثارًا تضرب أدبارها
بشط حروراء واستجمعت ** عليك الموالي وسحارها
فأخطرت نفسك من دونهم ** قحاز الرزيئة أخطارها
فلا تبعدان أبا قاسم ** فقد يبلغ النفس مقدارها
وأفني الحوادث ساداتنا ** ومر الليالي وتكرارها
قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعي من وهيبل، فقال ورقاء:
من مبلغ عني عبيدًا بأنني ** علوت أخاه بالحسام المهند
فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ** صريع لدى الديرين غير موسد
وعمدًا علوت الرأس منه بصارم ** فأثكلته سفيان بعد محمد
قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن هندًا بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة بن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصدًا، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي.
قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم:
من محمد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسرًا ولاتتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء، فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله قائم على كل نفس بما كسبت؛ فاعملوا صالحًا، وقدموا لأنفسكم حسنًا، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء. فخرج، فلما التقى للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: ألم تزعم لنا يا بن نوف أن سنهزمهم! قال: أو ما قرأت في كتاب الله: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب. فقال له المهلب: يا له فتحًا ما أهناه لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله محمدًا. ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير؛ قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " قال: المصعب: أما إنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشئ مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا؛ قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه.
قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف: ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت الناس صنفين؛ أما من كان له فيك هوى فخرج إليك. وأما من كان يرى رأى المخار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحدًا عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت؛ قال: صدقت؛ وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة. وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائديين.
قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله بن الحر؛ وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائديين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعًا هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائدين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء أنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينار من الجهد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالًا ضعيفًا، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحقت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه. وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب - وكان مجربًا: اجعل عليهم دروبًا حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه لغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضًا مما يروي أكثرهم. ثم إن مصعبًا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريبًا من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند عند زقاق البصريين عند فم سكة بين جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل جهار سوج خنيس، وجاء عيد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمارها ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون - وليس لهم أمير: يابن دومة، يابن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيمًا ما عيرني بها. وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحوًا من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضًا، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي.
ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شئ للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يشبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتًا، ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفًا، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كرامًا إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا وعجزا، فقال لهم المختار: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب ما يريد المختار تدلى من القصر بحبل، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم.
ثم إن المختار أزمع بالخروج إلى القوم حين رأى من أصحابه الضعف، ورأى ما بأصحابه من الفشل، فأرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن نجيب الفزاري، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فيهم السائب بن مالك الأشعري -وكان خليفته على الكوفة إذا خرج إلى المدائن- وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري، فولدت له غلاما فسماه محمدا، فكان مع أبيه في القصر، فلما قتل أبوه وأخذ من في القصر وجد صبيا فترك، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: الرأي لك، فماذا ترى؟ قال: أنا أرى أم الله يرى! قال: الله يرى، قال: ويحك! أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، وأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، فقال: { إنا لله وإنا إليه راجعون }، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي! فقال المختار عند ذلك يتمثل بقول غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي:
ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق
لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة وهول النفس والشفق
إما تسف على مجد ومكرمة ** أو إسوة لك فيمن تهلك الورق
فخرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم: أتؤمنوني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا، إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا. فضارب بسيفه حتى قتل. وقد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه: إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم، فقال كل رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأري فيقتل وبعضكم ينظر إلى مصارع بعض فيقول: يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه! ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر مُتم كرامًا، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا هذه الساعة أذل من على ظهر الأرض، فكان كما قال.
قال: وزعم الناس أن المختار قتل عند موضع الزياتين اليوم، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان يدعى أحدهما طرفة والآخر طرافا، ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة. ولما كان من الغد من قتل المختار قال بجير بن عبد الله المُسْلي: يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه. يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا باسيافكم فقاتلوا حتى تموتوا كراما. فعصوه وقالوا: لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك، فعصيناه، أفنحن نطيعك! فأمكن القوم من أنفسهم، ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عباد بن الحصين الحَبَطي فكان هو يخرجهم مكتفين، وأوصى عبد الله بن شداد الجُشَمي إلى عبّاد بن الحُصَين، وطلب عبد الله بن قراد عصاه أو حديدة أو شيئا يقاتل به فلم يجده، وذلك أن الندامة أدركته بعدما دخلوا عليه، فأخذوا سيفه وأخرجوه مكتوفا، فمر به عبد الرحمن وهر يقول:
ما بت أخشى أن أرى أسيرا ** إن الذين خالفوا الأميرا
قد رغموا وتبروا تتبيرا