فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فما باب التوبة؟ قال: يا عمر، خلق الله عز وجل بابًا للتوبة خلف المغرب، مصراعين من ذهب، مكللًا بالدر والجوهر، ما بني المصراع إلى المصراع الآخر مسيرة أربعين عامًا للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحًا من لدن آدم إلى صبيحة تلك الليلة إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم ترفع إلى الله عز وجل.
قال معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما التوبة النصوح؟ قال: إن يندم المذنب على الذنب الذي أصابه فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال: فيرد جبرئيل بالمصراعين فيلأم بينهما ويصيرهما كأنه لم يكن فيما بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل بعد ذلك توبة، ولم ينفع بعد ذلك حسنة يعملها في الإسلام إلا من كان قبل ذلك محسنًا، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري قبل ذلك، قال فذلك قوله عز وجل: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفعُ نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيرًا ".
فقال أبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا! فقال: يا أبي، إن الشمس والقمر بعد ذلك يكسيان النور والضوء، ويطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس فإنهم نظروا إلى ما نظروا إليه من فظاعة الآية، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار، ويغرسوا فيها الشجر، ويبنوا فيها البنيان. وأما الدنيا فإنه لو أنتج رجل مهرًا لم يركبه من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور.
فقال حذيفة بن اليمان: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فكيف هم عند النفخ في الصور! فقال: يا حذيفة، والذي نفس محمد بيده، لتقومن الساعة ولينفخن في الصور والرجل قد لط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة والثوب بين الرجلين فلا يطويانه، ولا يتبايعانه. ولتقومن الساعة والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة الرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه، ثم تلا رسول الله هذه الآية: " وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ".
فإذا نفخ في الصور، وقامت الساعة، وميز الله بين أهل الجنة وأهل النار ولما يدخلوهما بعد، إذ يدعو الله عز وجل بالشمس والقمر، فيجاء بهما أسودين مكورين قد وقعا في زلزال وبلبال، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن، حتى إذا كانا حيال العرش خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا ودؤبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فإنا لم ندع إلى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك! قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: صدقتما، وإني قضيت على نفسي أن أبدئ وأعيد، وإني معيدكما فيما بدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتما منه، قالا: إلهنا، ومم خلقتنا؟ قال: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه. قال: فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورًا، فتخلط بنور العرش فذلك قوله عز وجل: " يبديء ويعيد ".
قال عكرمة: فقمت مع النفر الذين حدثوا به، حتى أتينا كعبًا فأخبرناه بما كان من وجد ابن عباس من حديثه، وبما حدث عن رسول الله ، فقام كعب معنا حتى أتينا ابن عباس، فقال: قد بلغني ما كان من وجدك من حديثي، وأستغفر الله وأتوب إليه، وإني إنما حدثت عن كتاب دارسٍ قد تداولته الأيدي، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود، وإنك حدثت عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عز وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين، فأنا أحب أن تحدثني الحديث فأحفظه عنك، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول.
قال عكرمة: فأعاد عليه ابن عباس الحديث، وأنا أستقريه في قلبي بابًا بابًا، فما زاد شيئًا ولا نقص، ولا قدم شيئًا ولا أخر، فزادني ذلك في ابن عباس رغبة، وللحديث حفظًا.
ومما روى عن السلف في ذلك ما حدثناه ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، قال: قال ابن الكواء لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك! أما تقرأ القرآن " فمحونا آية الليل "! فهذه محوه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق، عن زائدة عن عاصم، عن علي بن ربيعة، قال: سأل ابن الكواء عليًا عليه السلام فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً "، هو المحو.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: كنت عند علي عليه السلام، فسأله ابن الكواء عن السواد الذي في القمر فقال: ذاك آية الليل محيت.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عمران بن حدير، عن رفيع، أبي كثيرة، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوا عما شئتم، فقال ابن الكواء فقال: ما السواد الذي في القمر، فقال: قاتلك الله! هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك! ثم قال ذاك محو الليل.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدثنا ابن عفير، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن حيّي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلًا قال لعلي رضي الله عنه: ما السوادُ الذي في القمر؟ قال: إن الله يقول: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ".
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل "، قال: هو السواد بالليل.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، " فمحونا آية الليل "، السواد الذي في القمر.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: ذكر ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، " فمحونا آية الليل "، قال: السواد الذي في القمر، كذلك خلقه الله.
حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: ليلًا ونهارًا كذلك خلقهما الله عز وجل.
قال ابن جريج: وأخبرنا عبد الله بن كثير، قال: " فمحونا آية الليل جعلنا آية النهار مبصرة "، قال: ظلمة الليل وسد ف النهار.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، قوله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل "، كنا نحدث أن محو آية الليل سوادُ القمر الذي فيه، " وجعلنا آية النهار مبصرة "، منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: ليلًا ونهارًا، كذلك جعلهما الله عز وجل.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره خلق شمس النهار وقمر الليل آيتين، فجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة يبصر بها، ومحا آية الليل التي هي القمر بالسواد الذي فيه.
وجائز أن يكون الله تعالى ذكره خلقهما شمسين من نور عرشه، ثم محا نور القمر بالليل على نحو ما قاله من ذكرنا قوله، فكان ذلك سبب اختلاف حالتيهما.