فصل ـ القسم الثاني من المقدمة

في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها

و أبعد من ذلك و أعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة و الفجر في قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين و ينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد و شداد ملكا من بعده و هلك شديد فخلص الملك لشداد و دانت له ملوكهم و سمع وصف الجنة فقال لأبنين مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة و كان عمره تسعمائة سنة و أنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب و أساطينها من الزبرجد و الياقوت و فيها أصناف الشجر و الأنهار المطردة و لما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبري و الثعالبي و الزمخشري و غيرهم من المفسرين و ينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها و حمل منها ما قدر عليه و بلغ خبره معاوية فأحضره و قص عليه فبحث عن كعب الأخبار و سأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد من سيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال و على عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال هذا و الله ذلك الرجل.
و هذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيىء من بقاع الأرض و صحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن و مازال عمرانه متعاقباً و الأدلاء تقص طرقه من كل وجه و لم ينقل عن هذه المدينة خبر و لا ذكرها أحد من الإخباريين و لا من الأمم و لو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة و بعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها و قد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة و إنما يعثر عليها أهل الرياضة و السحر مزاعم كلها أشبه بالخرافات و الذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم و حملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء و رشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنويون ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات و إلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام و إن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء و أساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لأنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها و إن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة و إلياس مضر و ربيعة نزار أي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة.
و من الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه و أنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصاً على اجتماعهما في مجلسه و أن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة السكر فحملت و وشي بذلك للرشيد فاستغضب و هيهات ذلك من منصب العباسة في دينها و أبويها و جلالها و أنها بنت عبد الله بن عباس و ليس بينها و بينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين و عظماء الملة من بعده. و العباسة بنت محمد المهدي ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد ابن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز و الخلافة النبوية و صحبة الرسول و عمومته و إقامة الملة و نور الوحي و مهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية و سذاجة الذين البعيدة عن عوائد الترف و مراتع الفواحش فأين يطلب الصون و العفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة و الذكاء إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى و تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول و أشراف قريش و غايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه و استخلصتهم و رقتهم إلى منازل الأشراف و كيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته و عظم آبائه و لو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف و قاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها و في سلطان قومها و استنكره و لج في تكذيبه و ابن قدر العباسة و الرشيد من الناس.
و إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة و احتجافهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره و شاركوه في سلطانه و لم يكن له منهم تصرف في أمور ملكه فعظمت آثارهم و بعد صيتهم و عمروا مراتب الدولة و خططها بالرؤساء من ولدهم و صنائعهم و احتازوها عمن سواهم من وزارة و كتابة و قيادة و حجابة و سيف و قلم. يقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة و عشرون رئيساً من بين صاحب سيف و صاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب و دفعوهم عنها بالراح لمكان أبيهم يحيى بن كفالة هارون ولي عهد و خليفة حتى شب في حجره و درج من عشه و غلب على أمره و كان يدعوه يا أبت فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم و انبسط الجاه عندهم و انصرفت نحوهم الوجوه و خضعت لهم الرقاب و قصرت عليهم الآمال و تخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك و تحف الأمراء و تسربت إلى خزائنهم في سبيل التزلف و الاستمالة أموال الجباية و أفاضوا في رجال الشيعة و عظماء القرابة العطاء و طوقوهم المنن و كسبوا من بيوتات الأشراف المعدم و فكوا العاني و مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم و أسنوا لعفاتهم الجوائز و الصلات و استولوا على القرى و الضياع من الضواحي و الأمصار في سائر الممالك حتى أسفوا البطالة و أحقدوا الخاصة و أغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة و الحسد و دبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية حتى لقد كان بنو خطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم و لا وزعتهم أواصر القرابة و قارن ذلك عند مخدومهم نواشيء الغيرة و الاستنكاف من الحجر و الأنفة و كان الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة. و انتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج على المنصور و يحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم على أمان الرشيد بخطه و بذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري و دفعه الرشيد إلى جعفر و جعل اعتقاله بداره و إلى نظره فحبسه مدة ثم حملته الدالة على تخلية سبيله و الاستبداد بحل عقاله حرماً لدماء أهل البيت بزعمه و دالة على السلطان في حكمه. و سأله الرشيد عنه لما و شي به أليه ففطن و قال أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان و أسرها في نفسه فأوجد السبيل بذلك على نفسه و قومه حتى ثل عرشهم و ألقيت عليهم سماؤهم و خسفت الأرض بهم و بدارهم و ذهبت سلفاً و مثلاً للآخرين أيامهم و من تأمل أخبارهم و استقصى سير الدولة و سيرهم وجد ذلك محقق الأسر ممهد الأسباب و انظر ما نقله ابن عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم و ما ذكره في باب الشعراء في كتاب العقد به محاورة الأصمعي للرشيد و للفضل بن يحيى في سمرهم تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة و المنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه و كذلك ما تحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً على إسماعه للخليفة و تحريك حفائظه لهم و هو قوله:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد و شفت أنفسنا مما نجد و استبدت مرةً واحدةًإنما العاجز من لايستبد
و إن الرشيد لما سمعها قال أي و الله إني عاجز حتى بعثوا بأمثالي هذه كامن غيرته و سلطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ بالله من غلبة الرجال و سوء الحال. و أما ما تموه له الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر و اقتران سكره بسكر الندمان فحاشا الله ما علمنا عليه من سوء و أين هذا من حال الرشيد و قيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين و العدالة و ما كان عليه من صحابة العلماء و الأولياء و محاوراته للفضيل بن عياض و ابن السمك و العمري و مكاتبته سفيان الثوري و بكائه من مواعظهم و دعائه بمكة في طوافه و ما كان عليه من العبادة و المحافظة على أوقات الصلوات و شهود الصبح لأول وقتها. حكى الطبري و غيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة و كان يغزو عاماً و يحج عاماً و لقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرأ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون و قال و الله ما أدري لم ؟ فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضباً و قال يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً إياك إياك و القرآن و الدين و لك ما شئت بعدهما و أيضاً فقد كان من العلم و السذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك و لم يكن بينه و بين جده أبي جعفر بعيد زمن إنما خلفه غلاماً و قد كان أبو جعفر بمكان من العلم و الدين قبل الخلافة و بعدها و هو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ يا أبا عبد الله إنه لم يبقى على وجه الأرض أعلم مني و منك و إني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس و شدائد ابن عمر و وطئه للناس توطئة قال مالك فوالله. لقد علمني التصنيف يومئذ و لقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا و هو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال و دخل عليه يوماً و هو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله فاستنكف المهدي من ذلك و قال يا أمير المؤمنين على كسوة هذه العيال عامناً هذا من عطائي فقال له لك ذلك و لم يصده عنه و لا سمح بالإنفاق فيه من أموال المسلمين فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة و أبوته و ما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته و التخلق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها و قد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة و لم يكن الكرم شجرتهم و كان شربها مذمة عند الكثير منهم و الرشيد و آباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم و دنياهم و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال و نزعات العرب. و انظر ما نقله الطبري و المسعودي في في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله و فطن الرشيد و ارتاب به و دس خادمه حتى عاينه يتناوله فاعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح خلط إحداها باللحم المعالج بالتوابل و البقول و البوارد و الحلوى و صب على الثانية ماءً مثلجاً و على الثالثة خمراً صرفاً و قال في الأول و الثاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه و قال في الثالث هذا طعام ابن بختيشوع و دفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد و أحضره للتوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط و أماع