مدرك لنا. و نحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا و بينها فلا يأتي لنا برهان عليها و لا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية و أحوال مداركها و خصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد و ما وراء ذلك من حقيقتها و صفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. و قد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن مالا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. و قال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين و إنما يقال فيها بالأخلق و الأولى يعني الظن: و إذا كنا إنما نحصل بعد التعب و النصب على الظن فقط قيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم و الاشتغال بها و نحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات و هذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم. و أما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه يتلك البراهين فقول مزيف مردود و تفسيره أن الإنسان مركب من جزءين أحدهما جسماني و الآخر روحاني ممترج به و لكل واحد من الجزءين مدارك مختصة به و المدرك فيهما واحد و هو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية و تارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة و المدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس. و كل مدرك فله ابتهاج بما يدركه. و اعتبره بحال الصبى في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء و بما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد و ألذ. فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج و لذة لا يعبر عنهما و هذا الإدراك لا يحصل بنظر و لا علم و إنما يحصل بكشف حجاب الحس و نسيان المدارك الجسمانية بالجملة. و المتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية و مداركها حتى الفكر من الدماغ و ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب و الموانع الجسمانية يحصل لهم بهجة و لذة لا يعبر عنهما. و هذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم و هو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأما قولهم إن البراهين و الأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك و الابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين و الأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال و الفكر و الذكر. و نحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه و تجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء و الإشارات و النجاء و تلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو و غيره يبعثر أوراقها و يتوثق من براهينها و يلتمس هذا القسط من السعادة فيها و لا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها. و مستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو و الفارابي و ابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال و اتصل به في حياته فقد حصل حظة من هذه السعادة. و العقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات و يحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي و قد رأيت فساده و إنما يعني أرسطو و أصحابه بذلك الاتصال و الإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها و بغير واسطة و هو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس. و أما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة و أنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا و ذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية و لابد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة. و أما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام و الأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه. و بينا فساد ذلك و إن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا. و الذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك و هي الموجودات التي أحاط بها علمنا و ليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر و أنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوءه و من لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. و أما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه و إصلاحها بملابسة المحمود من الخلق و مجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج للنفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية و ألوانها. و قد بينا أن أثر السعادة و الشقاوة و من وراء الإدراكات الجسمانية و الروحانية فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس و قوانين. و أما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال و الأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. و قد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدأ و المعاد ما معناه: إن المعاد الروحاني و أحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية و المقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة و وتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة. و أما المعاد الجسماني و أحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة و قد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلنظر فيها و ليرجع في أحواله إليها. فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع و ظواهرها. و ليس له فيما علمنا إلا ثمرة