كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهدي، أنهم سلموا من عند آخرهم إلّا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغرق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرصه إليه، فأخذ بيده فجرّه حتى عبر، فقال البارفىّ - وكان من أشدّ الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلّا قدح كانت علاقته رثّة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر. فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمى الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بن مالك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن عمير الصائدي، قال: لما أقحم سعد الناس في دجلة اقترنوا، فكان سلمان قرين سعد إلى جانبه يسايره في الماء، وقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم؛ والماء يطمو بهم، وما يزال فرس يستوي قائما إذا أعيا ينشز له تلعة فيستريح عليها؛ كأنه على الأرض، فلم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، وذلك يوم الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عليها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بين أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنّا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما دخل سعد المدينة الدنيا، وقطع القوم الجسر، وضموا السفن، قال المسلمون: ما تنتظرون بهذه النطفة! فاقتحم رجل، فخاض الناس فما غرق منهم إنسان ولا ذهب لهم متاع، غير أنّ رجلا من المسلمين فقد قدحا له انقطعت علاقته، فرأيته يطفح على الماء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن أحد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى المشركون المسلمين وما يهمون به بعثوا من يمنعهم من العبور، وتحمّلوا فخرجوا هرّابا، وقد أخرج يزدجرد - قبل ذلك وبعد ما فتحت بهرسير - عياله إلى حلوان، فخرج يزدجرد بعد حتى ينزل حلوان، فلحق بعياله، وخلّف مهران الرازي والنّخيرجان - وكان على بيت المال - بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حرّ متاعهم وخفيفة، وما قدروا عليه من بيت المال، وبالنساء والذّرارىّ، وتركوا في الخزائن نم الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان مالا يدري ما قيمته، وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة والأشربة، فكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه إلّا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم، فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمّة، وتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم؛ ليس في ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة في المقدّمات في آثار القوم إلى النهروان، فخرج حتى انتهى إلى النهروان، وسرّح مقدار ذلك في طلبهم من كلّ ناحية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسيّة: ديوان آمد. وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلّا الجنّ. فانهزموا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إيّاهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلمو فإخواننا لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإلا الجزية، وإلّا نابذناكم على سواء؛ إنّ الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا. ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتّخذ الإيوان مصلى، وإنّ فيه لتماثيل جصّ فما حرّكها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيمي، قالوا: وقد كان الملك سرّب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرّابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمون وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن من أحد. فانهزموا واقحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقيّة الجيش.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا أحد بنى عدىّ ابن شريف؛ رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمى أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الأقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس؛ فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهنّ حتى ألزقهنّ بالحيطان، فأفناهنّ. وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشدّه على عجل، وركب، ثم خرج فوقف. ومرّ به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بن شهاب.
قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون، ويقولون: من أي شئ فررنا! فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج عاجوا معه وهو أمامهم؛ فانتهى إلى ذلك الرجل، فرماه من أقرب مما كان يرمى منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرّط الحجارة. وتفارّ عن الفارسي أصحابه.
وقالوا جميعا؛ محمد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأوثناها قوما آخرين ". وصلّى فيه صلاة الفتح - ولا تصلّى جماعة - فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجصّ رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها. قالوا: وأتمّ سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أوّل جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ستّ عشرة.
ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعقبة وعمرو وأبي عمر وسعيد، قالوا: نزل سعد إيوان كسرى، وقدّم زهرة، وأمره أن يبلغ النهروان. فبعث في كلّ وجه مقدار ذلك لنفي المشركين وجمع الفيوء، ثمّ تحوّل إلى القصر بعد ثالثة، ووكّل بالأقباض عمرو بين عمرو ابن مقرّن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدّور وإحصاء ما يأتيه به الطلب؛ وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط. وألحّ عليهم الطلب فتنقّذوا ما في أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضمّوه إلى ماقدجمع؛ وكان أوّل شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى وسائر دور المدائن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركيّة مملوءة سلالا مختّمة بالرصاص، فما حسبناها إلّا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة فقسمت بعد بين الناس. وقال حبيب: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه الرفيل بن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدّمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إنّ لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لشئ بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى؛ ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة؛ وترجّل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة:
فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ** هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي
هم فلجوا بالبغل في الخصام ** بكلّ قطّاع شئون الهام
وصرّعوا الفرس على الآكام ** كأنّهم نعم من الأنعام