فلم يلبث محمد بن العبّاس أبو الفرج في وزارته إلّا يسيرا حتى اضطربت أموره ولم يف بما ضمنه لبختيار وتمكن أبو قرة من السعى عليه وردّ أبي الفضل إلى وزارته وضمن لبختيار تصحيح سبعة آلاف ألف من جهته بضمان سبكتكين عنه.
شرح الحال في ذلك وسبب تمكن أبي الفضل بعد نكبه حتى أعيد إلى الوزارة ومكن من أبي الفرج

لما خلع على أبي الفرج الخلعة التي تخلع على الوزراء ومكن من أبي الفضل وسلّم إليه مع جميع أسبابه والمتصلين به اتسع بما راج له من جهاتهم وحبس أبا الفضل في داره وضيّق عليه وبحث عن أمواله وأموال أهله وحرمه بغاية ما أمكنه.
فلمّا وقف عليه الأمير طالبه بالمال وناظره فاستقرّ ما بينهما على أن التزم ثلاثة آلاف ألف درهم يحتسب منها بما صحّ من خاص أمواله وأثمان غلّاته وآلاته وكراعه ويوفّى ما يبقى واشترط أن يوسع عليه ويسهل الاذن لمن يدخل إليه ليستسعفهم ويقرض منهم. فأحجم أبو الفرج محمد ابن العبّاس عن التنفيس عنه خوفا من نفاذ حيلته عليه وأعاده إلى الحبس والتضييق وانفسخ ما قرّره معه وعطف على أسبابه فثنّى المصادرات عليهم وعسفهم وأرهقهم وجازفهم ومات في حبسه صهر لأبي الفضل العباس بن الحسين يقال له: إبراهيم بن محمد الدهكى، فاتهم به وأنّه قتله بالعذاب والمطالبة.
وخلع على أبي قرة لتقلّد الديوان بعد أن أرفق بختيار بمال على ذلك وأقرّت واسط في يده فصار ضامنا لها خاصة مستوفيا على غيره من الضمناء وتلقّب بالرئيس لأن أبا الفرج كان أيّام تقلّده الديوان متلقّبا بهذا اللقب فأنكر أبو الفرج ذلك على أبي قرة وأمر الناس أن يخاطبوه بالوزير الرئيس تحصينا لهذا اللقب عن أبي قرة.
ذكر فساد الحال بين الوزير وبين أبي قرة وما تم له من عزله وتولية أبي الفضل

وابتدأ أبو قرّة يطالب بجميع مراتب أبي الفرج التي كانت له قبل الوزارة وزعم أنها من حقوق صاحب الديوان ويجب أن يستوفيها. فاضطربت الحال بينه وبين الوزير أبي الفرج ولم يزل يتزيد حتى ترامت إلى نهاية الفساد وضمن أبو قرّة عن هذا اللقب مالا ثانيا حتى أمضى له وخرج الأمر بأن يخاطب به.
وكان معزّ الدولة أطلق لأبي الفرج وأبي الفضل عند إخراجه إيّاهما إلى جهتي عمان والبطيحة للحرب عليهما أن يضربا على أبوابهما بالدبادب في أسفارهما عند حضور أوقات الصلوات. فصار ذلك رسما لهما استمرّا عليه ولم يقطعاه عند انصرافهما من وجه الحرب. فلمّا تقلّد أبو قرة الديوان أجراه مجرى حقوق العمل التي تستوفى واحبّ أن يضرب على بابه بالدبادب.
فسأل بختيار ذلك فأجابه إليه ومنعه أبو الفرج الوزير منه وأنكر، ثم بذل فيه أبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك.
ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة في التنافس إلى أبعد غاية وفي العداوة إلى أقصى نهاية. وكان صاحبهما لاهيا عنهما واتصلت المنازعة بينهما في أمثال هذه الأشياء ولم تحفظ مرتبة الوزارة وفضلها على غيرها حتى لم تتميز من سواها.
فتقدّم الوزير أبو الفرج إلى كتّابه بعمل لأبي قرة ومؤامرة تشتمل على ما يجب عليه في مردود حسباناته التي عملها في سنى ضمانه وإثارة جميع ما غبن فيه السلطان ومرافقه القديمة والحديثة فعملت هذه المؤامرة واشتملت على ستة آلاف ألف درهم ونسبت هذه الأموال إلى جهاتها وعرضت على بختيار وأطمع في وجوبها وأن حاله تفي بها فأمر بمطالبته.
واعتصم بسبكتكين الحاجب فحامى عليه واغتاظ بختيار من تعززه عليه ووجد خصومه الطريق إلى إغرائه به وأقاموا في نفسه أنّه سيحمل سبكتكين على خلع طاعته وإزالته عن مملكته. فأنفذ بختيار إليه نقيبا ووكّله به في دار سبكتكين ثم أنفذ ثانيا يستدعيه وضعف سبكتكين عن مقاومة صاحبه بختيار ومنابذته وكان شاع عنه أنّه إنّما يحامى على أبي قرة لمرفق يأخذه منه، فترك الإغراق في نصرته وسلمه إلى بختيار على موجدة في نفسه وحمية في قلبه ووعد أبا قرة أنّه سيتكلم فيه ويستنقذه.
فلمّا صار عند بختيار سلّمه إلى الوزير أبي الفرج وأمره باستخراج المال فضعف الوزير عن منابذة سبكتكين فيه ولم يقدم على عسفه ولم يسكن إلى إطلاقه فحصل معتقلا اعتقالا جميلا ووقفت الأمور التي كان ينظر فيها من إقامة القضيم للكراع ومهمات التسبيبات عليه.
وندم سبكتكين على تقليد أبي الفرج الوزارة ومساعدته على نكبة أبي الفضل وتذكر ما كان يعامله به من المجاملة والنفاق ورأى أنّه على علّاته كان أصلح له من أبي الفرج وضعف قلب أبي الفرج بفساد رأيه.
وكان أخوه أبو محمد علي بن العبّاس الخازن مستوليا على بختيار مالكا لقياده لا يفارق مجلسه عند الأنس والمنادمة فأشفق أن يجرى عليه من سبكتكين ما جرى على شيرزاد منه فاتفقا على إرضاء سبكتكين بإطلاق أبي قرّة وتقرير أمره على مال قليل لا يؤثر في حاله وأن يصير إلى واسط على رسمه الأوّل ويعتزل الديوان. فلمّا أفرج عنه أقام القضيم ونفذ الأمور المتعلّقة به وانحدر إلى واسط بعد أن واطأ سبكتكين على السعى لأبي الفضل في الوزارة وإنقاذه من محبسه والقبض على أبي الفرج وأبي محمد علي بن العبّاس وأسبابهما.
وقد كان الوزير أبو الفرج عطّل ديوان أبي قرّة ونقل الأعمال عنه واستبد بمكاتبة العمال وكان له كاتب أهوازيّ يعرف بابن السكر قد اتسمت حاله فشرع في تقلّد هذا الديوان وبذل لبختيار مالا يصحّحه له في كلّ سنة من حقوق المحاسبات وأعلمه أنّ هذا الديوان زمام له على الوزراء وأنّ الوزير الآن مستبدّ بالجميع وفي ذلك ضياع الدخل والخرج وفساد الأصل والفرع.
واتّصل الخبر بأبي الفرج فغلظ عليه وعظم في نفسه وراسل بختيار بأنه لا يصبر على أن يتقلّد كاتبه هذا الديوان على مراغمته فأجابه بأنّه لا بدّ من صاحب ديوان يكون معه « فاختر أنت من تحب » فهان عليه ردّ أبي قرة إلى نفسه وكان أخفّ على قلبه وأيسر محملا من نظر ابن السكر فيه فكوتب بالاصعاد فورد وجددت له الخلع وقلد الديوان.
وكانت المراسلات بينه وبين أبي الفضل متصلة وذلك أن أبا الفضل كان واسع الصدر فأفضل على الموكلين به من غلمان الوزير أبي الفرج ووسّع عليهم وأكثر في برّهم والإحسان إليهم فلم يمنعوه من مكاتبة من يريد مكاتبته وأوصلوا إليه كتب من كاتبه فاحتال ضروب الحيل وتمّ له أكثر ما حاوله. فلمّا ورد أبو قرّة بغداد تمكن من إتمام أمره والسعى له.
واشتدت الإضاقة بأبي الفرج ووقفت عليه أموره ومطالبه. لأنّ واسط انغلقت عليه بأبي قرة والبصرة والأهواز انغلقتا عليه بالأتراك الذين استبدّوا بأموالهما في تسبيباتهم ولم ينهض بما ضمنه عن أبي الفضل لأنّه اقتصر على أخذ ظاهره وخاف أن يطلقه ليضطرب فيحتال عليه ويسعى في الوزارة وهو لا يعلم انه قد سعى وفرغ واجتمعت عليه مطالبات كثيرة وصارت حاله في انحراف بختيار عنه وعداوة سبكتكين الحاجب له ولأخيه وتعصّب الجند عليهما كحال أبي الفضل لمّا قبض عليه.
ذكر ما احتال به في هذه الحال وما عرض له من سوء الاتفاق

لمّا أحسّ باضطراب أمره خاف أن يعاجله بختيار بالقبض عليه فأحال على أموال وقفت عليه بالأهواز وأنّه يريد الشخوص إليها فمنعه بختيار من الخروج إلّا بعد إقامة الوجوه للنفقات التي بحضرته لئلا تتوجه عليه المطالبات بعد خروجه ويقع إخلال بالإقامات فاحتاج أن يستخلف أخاه بحضرته حتى ضمن له ذلك. وواقفه على وجوه ظن أنّها زاجية وأضاف إليه ابن أخته المعروف بأبي القاسم عليّ بن الحسين المشرف على أنّه ناظر في الدواوين والحسبانات وشخص إلى واسط.
وشخص أبو قرّة على أثره بعد أن قرر أمر أبي الفضل وفرغ منه ولكن تعلق طمع بختيار بالمواعيد التي وعده بها أبو الفرج والضمانات التي ضمنها أخوه. فلما حصلا بواسط ضايقه أبو قرّة في الأمور وعارضه في التدبير وكان مستوليا على البلد بالضمان، ثم على سائر الأعمال بحق النظر في الديوان ثم بالعناية التي كانت له من سبكتكين. فخفف الوزير أبو الفرج المقام بواسط وبرز عنها يريد الأهواز.
فحدث عند تدبيره وعمله على المسير أن توفّى رجل كان متغلبا على أسافل واسط وهي أعمال نهر الصلة ونهر الفضل وكان يعرف هذا الرجل بأحمد بن خاقان وهو جار محمد بن عمران بن شاهين واستولى على هذه النواحي وكان يقاطع عنها السلطان كما يريد ولا يمكن الاستيفاء عليه وله حال قوية ونعمة عظيمة. فقدّر محمد بن العباس الوزير أن يصل إلى أمواله فانتقل إلى هذا الوجه وسبقه ابن له يقال له: خاقان، فاحتمل غلات أبيه وأمواله ودخل إلى مضايق البطيحة.
ووجد أبو قرّة فرصته فأخذ في مراسلته وتقويته وتشجيعه وأعلمه أنّه معه وعونه ثم عمل أعمالا أوجب بها لنفسه بحق الضمان الذي له في واسط على هذا المتوفى شيئا كثيرا من الغلة والمال. ثم قال للوزير أبي الفرج محمد بن العباس انّه لا حقّ له في شيء مما يصل إليه من أموال هذا المتوفى إلّا بعد أن يستوفى منه هذه البقايا أو يحتسب بها له من مال ضمانه.
فسار الوزير أبو الفرج إلى بلاد لم يجد فيها شيئا ولو وجده لنازعه فيه أبو قرّة، وحصل منازلا لخاقان بحيث لا يمكنه الدخول إليه ولم يصادف في تلك الأعمال إنسانا بكلمة ولا حبّة من غلّة ولا أثرا من مال، فجنح إلى مراسلة خاقان والتماس مصالحته. فامتنع عليه ونازله أياما كثيرة حتى ملّ وساءت حاله وحال من معه وانقطعت عنهم الموادّ فاضطرّ إلى الرحيل ورضى بمال يسير لم يتمكن من استيفائه وحصل من هذا اليسير شيء يسير ووقعت المنازعة فيه بينه وبين أبي قرّة حتى اتفقا على اقتسامه وبادر بالخروج إلى الأهواز.
وكاتب أبو قرّة بختيار يعلمه أنّه ليس له وجه درهم واحد وأنّه خرج « مستروحا إلى البعد عنك لتندفع عنه النكبة التي خافها من جهتك » وكتب إلى بختكين آزاذرويه يحذّره منه فكتب بختكين إلى بختيار بانّه لم يبق عليه شيء وأنّ تسبيبات الأتراك وأنزالهم تستغرق الواجب وزيادة كثيرة وأنّ محمد بن العباس الوزير إنّما يصير إلى أعماله ليتأول عليه بالمحالات ويعمل له المؤامرات ويمدّ يده إلى أموال السنة المقبلة.
ووافق ذلك أن أخاه أبا محمد علي بن العباس الخازن صحّح البعض من تلك الوجوه التي أقيمت بالحضرة ووقف عليه الباقي لضعف يده ولكثرة الأراجيف بأخيه وبه وبأنّ بختيار قد تمت المواقفة بينه وبين أبي الفضل على إعادته إلى الوزارة وأخذ خطه في أبي الفرج وأبي محمد أخيه وأسبابهما بسبعة آلاف ألف درهم وأنّه يطلق الاستحقاقات ويدرّ النفقات.
فكتب بختيار إلى بختكين بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وكتب إلى أبي قرة بمثل ذلك وبالاحتياط عليهم حتى لا يفوت أحد منهم وقبض بختيار على أبي محمد الخازن أخيه وكان جالسا معه يشرب على رسم كان له في منادمته وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وكان في دار أبي الفرج وخلع عليه للوزارة.
خروج ابن العميد إلى الجبل

وفي هذه السنة خرج الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد إلى الجبل في خيل عظيمة لتدبير أمرها وتقرير أمر حسنويه بن الحسين الكردي.
ذكر السبب في ذلك

كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوى واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه بالفتوح الكبار ولأنّه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم وخدم خدمة يستحق بها الإحسان إلّا أنّه مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي يتبسّط فيها والإضافات التي يستولى عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان فكان يزيد أمره على الأيام وتتشاغل الولاة عنه إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحّة تلاحّا فيها إلى أن قصده ابن مسافر بالحرب فهزمه حسنويه وكان يظن ابن مسافر أنّه لا يكاشفه ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه فلم تقف الحرب حيث ظنّ وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصار ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرّقوا بإزائهم.
ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كلّ فارس منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرة تقدم بطرح النار فيه من عدّة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفا وحميت الشمس عليهم مع حرّ النهار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عمّا همّ به.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل هذا كلّه له وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين العميد - وهو الأستاذ الرئيس - بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة.
فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدّة وزينة وخرج ركن الدولة مشيّعا له وخلع على القواد ووقف حتى اجتاز به العسكر قائد بعد قائد وكوكبة بعد كوكبة، ورضى العدة والقوة فودع حينئذ الوزير ابن العميد وعاد إلى الري.
وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح وكان شابّا قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند فهو بذكائه وحدّة ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقا شديدا على ركن الدولة وهو مع ذلك لقلّة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه ويحبّ أن يسير في خواص الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم ويخلع عليهم خلعا كثيرة ويحمل رؤساءهم وقوّادهم على الخيول الفرّه بالمراكب الثقال ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدّامه إذا ركب وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أنّ ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه.
ابن العميد يصف الديلم

ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع وأنّه ما ملكهم أحد قطّ إلّا بترك الزينة وبذل مالا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبّر عليهم ولا يكون إلّا في مرتبة أوسطهم حالا وأنّ من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حالة فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسد على نعمته والسعى على إزالتها وترقّب أوقات الغرّة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت.
وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظنّ أنّه قد ملأ قلبه رعبا وأنّه سيكفّ عن السيرة التي شرع فيها. فما هو إلّا أن يفارق مجلسه ذاك حتى يعاود سيرته تلك فأشفق الأستاذ الرئيس في سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلج في هذه الأخلاق ويغترّ بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهى إلى ما لا يتلافاه فسيّره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا عليّ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلا أديبا ركينا حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقا وأدبا.
ابن العميد وابنه أبو الفتح

فلمّا كان في بعض الطريق - وكان يركب العماريّات ولا يستقلّ على ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغيرها عليه - التفت حوله فلم ير في موكبه أحدا وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري فسألنى عن الخبر فقلت له:
« إنّ الجماعة بأسرهم مالت مع أبي الفتح إلى الصيد. » فأمسك حتى نزل في معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام وكان يحضره كل يوم عشرة من القوّاد على مائدته التي تخصّه وعدّة من القوّاد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم.
فلمّا كان في ذلك اليوم لم يحضره أحد واستقصى في السؤال فقيل:
« إنّ أبا الفتح أضافهم في الصحراء. » فاشتطّ من ذلك وساءه أن يجرى مثل هذا ولا يستأذن فيه.
وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو في وجه حرب ولم يأمن أن يستمر هذا التشتت من المعسكر فتتمّ عليه حيله. فدعا أكبر حجّابه ووصّاه بان يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصى النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته وظنّ أنّ هذا المبلغ من الإنكار سيغضّ منه وينهى العسكر من اتباعه على هواه فلم يؤثّر كلامه هذا كبير أثر.
وعاد الفتى إلى عادته واتّبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب وكان لا يخليهم من الخلع والألطاف. فشقّ ذلك على الأستاذ الرئيس جدّا ولم يحبّ أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه ولا أن يبالغ في الإنكار وهو في مثل ذلك الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوّه. فدارى أمره وتجرّع غيظه، وأدّاه ذلك إلى زيادة في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في مجلس خلواته:
« ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلّا هذا الصبى. »
- يعنى ابنه - ويقول في مرضه:
« ما قتلني إلّا جرع الغيظ التي تجرّعتها منه. » ومما حصّلته عنه في وجهه هذا وقد سألته عن عاقبة أمر حسنويه معه وهل إلى استئصاله سبيل فقال:
« أمّا بهذه السرعة وفي هذا الزمان فلا، ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنّا وزيادة شيء، ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء، ثم يدبر أمره على الأيّام. »
وفاة ابن العميد بهمذان وانتصاب ابنه أبي الفتح مكانه

فلمّا حصل بهمذان اشتدّت علته فتوفّى بها - رحمه الله - وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه وكان العسكر كما ذكرت مائلا إليه فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومنّاهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضّه على الطاعة وأومأ إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على العسكر وتتوفّر بعد ذلك بقيّته على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل [ ذلك ] مع ركن الدولة.