ذكر من قال ذلك
قال علي بن محمد المدائني، عن أبي زكرياء العجلاني، عن ابن إسحاق، عن أشياخه، قال: قدم ماهويه أبراز مرزبان مرو على علي بن أبي طالب بعد الجمل مقرًّا بالصلح، فكتب له علي كتابًا إلى دهاقين مرو والأساورة والجند سلارين ومن كان في مرو: بسم الله الرحمن الرحيم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن ما هويه أبراز مرزبان مرو جاءني، وإنّي رضيت عنه وكتب سنة ست وثلاثين. ثم إنهم كفروا وأغلقوا أبرشهر.
توجيه علي خليد بن طريف إلى خراسان
قال علي بن محمد المدائني: أخبرنا أبو مخنف، عن حنظلة بن الأعلم، عن ماهان الحنفي، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قال: بعث علي خليد بن قرّة اليربوعي - ويقال خليد بن طريف - إلى خراسان.
ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية
وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - بايع عمرو بن العاص معاوية، ووافقه على محاربة علي، وكان السبب في ذلك ما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما أحيط بعثمان - رضي الله عنه - خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجّهًا نحو الشأم، وقال: والله يا أهل المدينة، ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلّا ضربه الله عز وجل بذلّ؛ من لم يستطع نصره فليهرب. فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده حسّان بن ثابت، وتتابع علي ذلك ما شاء الله.
قال سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: بينا عمرو بن العاص جالس بعجلان ومعه ابناه، إذ مرّ بهم راكب فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة، فقال عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة. قال عمرو: حصر الرجل، قال: فما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصورًا؛ قال عمرو: يقتل. ثم مكثوا أيامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: قتّال؛ قال عمرو: قتل الرجل، فما الخبر؟ قال: قتل الرجل. قال: ثم لم يكن إلّا ذلك إلى أن خرجت، ثم مكثوا أيّامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب، قال عمرو: يكون حرب؛ فما الخبر؟ قال: قتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبويع لعلي بن أبي طالب، قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ تكن حرب من حكّ فيها قرحة نكأها، رحم الله عثمان ورضي الله عنه، وغفر له! فقال سلامة بن زنباع الجذامي: يا معشر قريش، إنه والله قد كان بينكم وبين العرب باب، فاتخذوا بابًا إذ كسر الباب. فقال عمرو: وذاك الّذي نريد. ولا يصلح الباب إلا أشاف تخرج الحقّ من حافرة البأس، ويكون الناس في العدل سواء، ثم تمثّل عمرو في بعض ذلك:
يا لهف نفسي على مالك ** وهل يصرف اللهف حفظ القدر!
أنزع من الحرّ أودي بهم ** فأعذرهم أم بقومي سكر!
ثم ارتحل راجلًا يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعي الحياء والدين! حتى قدم دمشق، وقد كان سقط إليه من الذي يكون علم، فعمل عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: كان النبي قد بعث عمرًا إلى عمان، فسمع هنالك من حبر شيئًا، فلما رأى مصداقه وهو هناك أرسل إلى ذلك الحبر، فقال: حدثني بوفاة رسول الله ، وأخبرني من يكون بعده؟ قال: الذي كتب إليك يكون بعده، ومدّته قصيرة، قال: ثمّ من؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة؛ قال: فما مدّته؟ قال: طويلة؛ ثم يقتل. قال: غيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة؛ قال: فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة، قال: فما مدّته؟ قال: طويلة، ثم يقتل، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: عن ملإ. قال: ذلك أشدّ؛ فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه ينتشر عليه الناس، وتكون على رأسه حرب شديدة بين الناس، ثمّ يقتل قبل أن يجتمعوا عليه، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة، ثم لا يرون مثله. قال: فمن يلي بعده؟ قال: أمير الأرض المقدّسة، فيطول ملكه، فيجتمع أهل تلك الفرقة وذلك الانتشار عليه، ثم يموت.
وأما الواقدي، فإنه فيما حدثني موسى بن يعقوب، عن عمّه، قال: لما بلغ عمرًا قتل عثمان رضي الله عنه، قال: أنا عبد الله، قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده! إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبًا، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلّا سيستنظف الحقّ، وهو أكره من يليه إلي. قال: فبلغه أنّ عليًّا قد بويع له، فاشتدّ عليه، وتربّص أيامًا ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة وقال: أستأني وأنظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أنّ طلحة والزبير قد قتلا، فأرتج عليه أمره، فقال له قائل: إن معاوية بالشأم لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية! فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب. وقيل له: إنّ معاوية يعظم شأن قتل عثمان بن عفان، ويحرّض على الطلب بدمه؛ فقال عمرو: ادعوا لي محمدًا وعبد الله، فدعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان رضي الله عنه، وبيعة الناس لعلي، وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أمّا علي فلا خير عنده، وهو رجل يدلّ بسابقته، وهو غير مشركي في شئ من أمره. فقال عبد الله بن عمرو: توفّي النبي وهو عنك راض، أرى أن تكفّ يدك، وتجلس في بيتك، حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك في صوت ولا ذكر. قال عمرو: أمّا أنت يا عبد الله فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي، وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالّذي أنبه لي في دنياي، وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشأم يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحقّ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم - ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو - فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك! انصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك! إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني! أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إنّ في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته؛ ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه.
توجيه علي بن أبي طالب جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في طاعته
وفي هذه السنة وجّه علي عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة وفراغه من الجمل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، وكان جرير حين خرج علي إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، وكان الأشعث بن قيس على أذر بيجان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، فلما قدم علي الكوفة منصرفًا إليها من البصرة، كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من الناس، والانصراف إليه. ففعلا ذلك، وانصرفا إليه.
فلما أراد علي توجيه الرسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة: ابعثني إليه، فإنه لي ودّ حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول في طاعتك، فقال الأشتر لعلي: لا تبعثه، فوالله إنّي لأظنّ هواه معه؛ فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع به إلينا؛ فبعثه إليه، وكتب معه كتابًا يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من حربه إياهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرين والأنصار من طاعته، فشخص إليه جرير، فلمّا قدم عليه ماطله واستنظره، ودعا عمرًا فاستشاره فيما كتب به إليه، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشأم، ويلزم عليًّا دم عثمان، ويقاتله بهم، ففعل ذلك معاوية، وكان أهل الشأم - فيما كتب إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن محمد وطلحة - لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان رضي الله عنه - الذي قتل فيه مخضّبًا بدمه وبأصابع نائلة زوجته مقطوعة بالبراجم؛ إصبعان منها وشئ من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام - وضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه، وآلي الرجال من أهل الشأم ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم. فمكثوا حول القميص سنة، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ويجلّله أحيانًا فيلبسه. وعلّق في أردانه أصابع نائلة رضي الله عنها.
فلما قدم جرير بن عبد الله على علي - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة - فأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشأم معه على قتاله، وأنّهم يبكون على عثمان، ويقولون: إنّ عليًّا قتله، وآوى قتلته، وإنّهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن تبعث جريرًا، وأخبرتك بعداوته وغشّه، ولو كنت بعثتني كان خيرًا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابًا يرجو فتحه إلّا فتحته، ولا بابًا يخاف منه إلّا أغلقته. فقال جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك؛ لقد ذكروا أنّك من قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور.
فخرج جرير بن عبد الله إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه بأمره بالقدوم عليه. وخرج أمير المؤمنين فعسكر بالنّخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس بمن نهض معه من أهل البصرة.
خروج علي بن أبي طالب إلى صفين
حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، عن سليمان، عن عبد الله، عن معاوية بن عبد الرحمن، عن أبي بكر الهذلي، أن عليًّا لما استخلف عبد الله بن عبّاس على البصرة سار منها إلى الكوفة، فتهيّأ فها إلى صفّين، فاستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم؛ وأشار آخرون بالمسير. فأبى إلّا المباشرة؛ فجهّز الناس. فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص فاستشاره. فقال: أمّا إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. قال: أمّا إذًا يا أبا عبد الله فجهّز الناس. فجاء عمرو فحضّض الناس، وضعّف عليًّا وأصحابه، وقال: إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم. ثم إنّ أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، ومنهم من قد قتل خليفتكم؛ فالله الله في حقّكم أن تضّيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه! وكتب في أجناد أهل الشأم، وعقد لواءه لعمرو، فعقد لوردان غلامه فيمن عقد، ولابنيه عبد الله ومحمد، وعقد علي لغلامه قنبر، ثم قال عمرو:
هل يغنين وردان عنّي قنبرا ** وتغني السكون عنّي حميرا
إذا الكماة لبسوا السنوّرا
فبلغ ذلك عليًّا فقال:
لأصبحنّ العاصي ابن العاصي ** سبعين ألفًا عاقدي النواصي
مجنّبين الخيل بالقلاص ** مستحقبين حلق الدلاص
فلما سمع ذلك معاوية قال: ما أرى ابن أبي طالب إلّا قد وفى لك؛ فجاء معاوية يتأنى في مسيره. وكتب إلى كلّ من كان يرى أنه يخاف عليًّا أو طعن عليه ومن أعظم دم عثمان واستعواهم إليه. فلما رأى ذلك الوليد بعث إليه يقول:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ** فإنّك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالدّم المعنّى ** تهدّر في دمشق فما تريم
وإنّك والكتاب إلى علي ** كدابغة وقد حلم الأديم
يمينك الإمارة كلّ ركب ** لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو الترات بمن توانى ** ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حيًّا ** لجرّد؛ لا ألفّ ولا سئوم
ولا نكل عن الأوتار حتّى ** يبئ بها، ولا برم جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ** فهم صرعى كأنهم الهشيم
وقال غير أبي بكر: فدعا معاوية شدّاد بن قيس كاتبه وقال: ابغني طومارًا، فأتاه بطومار، فأخذ القلم فكتب، فقال: لا تعجل، اكتب:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ** ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ثم قال: اطو الطومار، فأرسل به إلى الوليد، فلما فتحته لم يجد فيه غير هذا البيت.
قال أبو بكر الهذلي: وكتب رجل من أهل العراق حيث سار علي بن أبي طالب إلى معاوية بيتين:
أبلغ أمير المؤمني ** ن أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهلها ** عنق إليك فعيت هيتا
عاد الحديث إلى حديث عوانة. فبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانئ في أربعة آلاف، وخرج علي من النخيلة بمن معه، فلمّا دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، ووجّه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه.
ما أمر به علي بن أبي طالب من عمل الجسر على الفرات
فلما انتهى علي إلى الرقة قال: فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي - لأهل الرقة: اجسروا لي جسرًا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشأم، فأبوا. وقد كانوا ضمّوا إليهم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، وذهب ليمضي بالناس كيما يعبر بهم على جسر منبج، فناداهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، ألا أني أقسم لكم بالله عز وجل؛ لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتكم جسرًا حتى يعبر لأجردنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال ولأخرّبنّ الأرض، ولآخذّن الأموال. قال: فلقي بعضهم بعضًا، فقالوا: أليس الأشتر يفي بما حلف عليه، أو يأتي بشرّ منه؟ قالوا: نعم، فبعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسرًا، فأقبلوا. وجاء علي فنصبوا له الجسر، فعبر عليه بالأثقال والرجال. ثم أمر علي الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلًا.
قال أبو مخنف: وحدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، أنّ الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضًا، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزدي، فنزل فأخذها، ثم ركب، وقال لصاحبه:
فإن يك ظنّ الزاجري الطير صادقًا ** كما زعموا أقتل وشيكًا وتقتل
فقال له عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أوتاه أحبّ إلي مما ذكرت؛ فقتلا جميعًا يوم صفّين.
قال أبو مخنف: فحدثني خالد بن قطن الحارثي، أنّ عليًّا لما قطع الفرات دعا زياد بن النضر، وشريح بن هانئ، فسرّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما التي كانا خرجا عليها من الكوفة. قال: وقد كانا حيث سرّحهما من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة، وبلغهما أنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشأم لاستقبال علي، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي؛ أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لا خير في أن نلقى جنود أهل الشأم بقلّة من معنا منقطعين من العدد والمدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليًّا بقرية دون قرقيسياء؛ وقد أرادوا أهل عانات، فتحصّنوا وفرّوا، ولما لحقت المقدّمة عليًّا قال: مقدّمتي تأتيني من ورائي. فتقدّم إليه زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ؛ فأخبراه بالذي رأيا حين بلغهما من الأمر ما بلغهما، فقال: سددتما. ثم مضى علي، فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشأم؛ فأرسلا إلى علي: إنّا قد لقينا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشأم، وقد دعوناهم فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. فأرسل علي إلى الأشتر؛ فقال: يا مالك، إنّ زيادًا وشريحًا أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جمع من أهل الشأم، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنّجاء إلى أصحابك النجاء، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم. وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم، والاعذار إليهم مرة بعد مرّة، واجعل على ميمنتك زيادًا، وعلى ميسرتك شريحًا، وقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإنّي حثيث السير في أثرك إن شاء الله. قال: وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي، فكتب علي إلى زياد وشريح: أمّا بعد، فإني قد أمّرت عليكما مالكًا، فاسمعا له وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا الإسراع إلى ما الإبطاء عنه أمثل، وقد أمرته بمثل كنت أمرتكما به ألّا يبدأ القوم حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم.
وخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتّبع ما أمره علي وكفّ عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له، واضطربوا ساعة. ثم إنّ أهل الشأم انصرفوا، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال حسن عددها وعدّتها، وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي، قتله يومئذ ظبيان بن عمّار التميمي، وما هو إلّا فتى حدث، وإن كان التنوخي لفارس أهل الشأم، وأخذ الأشتر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور.
ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الذي كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر حتى صفّ أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة، فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال له الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفّهم بسيفي ما رجعت أبدًا حتى أضرب بسيفي في صفّهم، قال له الأشتر: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي؛ أنه لا يبرز إن كان ذلك من شأنه إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - لربّك الحمد - من أهل الكفاءة والشرف، غير أنّك فتى حدث السنّ، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. فأتاه فنادى: آمنوني فإنّي رسول. فأومن، فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي، قال: حدثني سنان، قال: فدنوت منه فقلت: إنّ الأشتر يدعوك إلى مبارزته. قال: فسكت عني طويلًا ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه هو حمله على إجلاء عمّال ابن عفان رضي الله عنه من العراق، وانتزاؤه عليه يقبّح محاسنه، ومن خفّة الأشتر وسوء رأيه أن سار إلى ابن عفان رضي الله عنه في داره وقراره حتى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعًا بدمه؛ ألا لا حاجة لي في مبارزته. قال: قلت: إنك قد تكلمت، فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا، لا حاجة في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. فصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع إلي لأخبرته بعذر صاحبي وحجّته. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علي بن أبي طالب غدوة. فقدم الأشتر فيمن كان معه في تلك المقدّمة حتى انتهى إلى معاوية، فواقفه، وجاء علي في أثره فلحق بالأشتر سريعًا، فوقف وتواقفوا طويلًا.
ثمّ إنّ عليًّا طلب موضعًا لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشأم. فاقتتل الناس على الماء، وقد كان الأشتر قال له قبل ذلك: إنّ القوم قد سبقوا إلى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فإنهم يشخصون في أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنّا نحن وهم على السواء، فكره ذلك علي، وقال: ليس كلّ الناس يقوى على المسير، فنزل بهم.
القتال على الماء
قال أبو مخنف: وحدثني تميم بن الحارث الأزدي، عن جندب بن عبد الله، قال: إنّا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها أبا الأعور يمنعها ويحميها، فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم فلم نجدها، فأتينا عليًّا فأخبرناه بعطش الناس، وأنا لا نجد غير شريعة القوم. قال: فقاتلوهم عليها. فجاءه الأشعث بن قيس الكندي فقال: أنا أسير إليهم، فقال له علي: فسر إليهم. فسار وسرنا معه، حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنّبل، ورشقناهم والله بالنّبل ساعة، ثم اطّعنّا والله بالرماح طويلًا، ثم صرنا آخر ذلك نحن والقوم إلى السيوف، فاجتلدنا بها ساعة. ثم إنّ القوم أتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدًّا في الخيل والرجال، فأقبلوا نحونا، فقلت في نفسي: فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنا هؤلاء، فذهب فالتفتّ فإذا عدّة القوم أو أكثر، قد سرّحهم إلينا ليغنوا عنّا يزيد بن أسد وأصحابه، عليهم شبث بن ربعي الرياحي، فوالله ما ازداد القتال إلّا شدّة. وخرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، وخرج الأشتر من قبل علي في جمع عظيم. فلمّا رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، أمّد الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي، فاشتدّ قتالنا وقتالهم، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي:
خلّوا لنا ماء الفرات الجاري ** أو اثيتوا لجحفل جرّار
لكلّ قرم مستميت شاري ** مطاعن برمحه كرّار
ضرّاب هامات العدا مغوار
قال أبو مخنف: وحدثني رجل من آل خارجة بن التميمي أن ظبيان ابن عمارة جعل يومئذ يقاتل وهو يقول:
هل لك يا ظبيان من بقاء ** في ساكن الأرض بغير ماء
لا وإله الأرض والسّماء ** فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسّيف عن حمس الوغاء ** حتّى يجيبوك إلى السواء
قال ظبيان: فضربناهم والله حتى خلّونا وإيّاه.
قال أبو مخنف: وحدثني أبي يحيى بن سعيد، عن عمّه محمد بن مخنف، قال: كنت مع أبي مخنف بن سليم يومئذ، وأنا ابن سبع عشرة سنة، ولست في عطاء، فلما منع الناس الماء قال لي أبي: لا تبرحنّ الرحل، فلما رأيت المسلمين يذهبون نحو الماء لم أصبر، فأخذت سيفي، وخرجت مع الناس فقاتلت، قال: وإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ومعه قربة، فلما رأى أهل الشأم قد أفرجوا عن الشريعة اشتدّ حتى ملأ قربته، ثم أقبل، ويشدّ عليه رجل من أهل الشأم فيضربه فيصرعه، وسقطت القربة منه. قال: وأشدّ على الشامي فأضربه فأصرعه، واشتدّ أصحابه فاستنقذوه، فسمعتهم وهم يقولون: لا نأمن عليك. ورجعت إلى المملوك فاحتملته، فإذا هو يكّلمني وبه جرح رغيب، فما كان أسرع من أن جاءه مولاه، فذهب به، وأخذت قربته وهي مملوءة، وآتي بها أبي مخنفًا، فقال: من أين جئت بها؟ فقلت: اشتريتها - وكرهت أن أخبره الخبر، فيجد علي - فقال: اسق القوم، فسقيتهم، ثم شرب آخرهم، ونازعتني نفسي والله إلى القتال، فأنطلق فأتقدّم فيمن يقاتل، فقاتلناهم ساعة، ثم أشهد أنهم خلّوا لنا عن الماء، فما أمسينا حتى رأينا سقاتنا وسقاتهم يزدحمون على الشريعة، وما يؤذي إنسان إنسانًا، فأقبلت راجعًا، فإذا أنا بمولى صاحب القربة، فقلت: هذه قربتك عندنا، فأرسل من يأخذها، أو أعلمني مكانك حتى أبعث بها إليك، فقال: رحمك الله! عندنا ما نكتفي به؛ فانصرفت وذهب، فلما كان من الغد مرّ على أبي، فوقف فسلّم عليه، ورآني إلى جنبته، فقال: ما هذا الفتى منك؟ قال: ابني؛ قال: أراك الله فيه السرور، أنقذ الله عز وجل أمس غلامي به من القتل، حدثني شباب الحي أنه كان أمس أشجع الناس، فنظر إلي أبي نظرة عرفت منها في وجهه الغضب، فسكتّ حتى إذا مضى الرجل قال: هذا ما تقدّمت إليك فيه! فحلّفني ألّا أخرج إلى قتال إلّا بإذنه، فما شهدت من قتالهم إلّا ذلك اليوم حتى كان يوم من أيامهم.
قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مهران مولى يزيد بن هانئ، قال: والله إنّ مولاي يزيد بن هانئ ليقاتل على الماء، وإنّ القربة لفي يده، فلما انكشف أهل الشأم انكشافة عن الماء، استدرت حتى أسقي، وإنّي فيما بين ذلك لأقاتل وأرامي.
قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما قدمنا على معاوية وأهل الشأم بصفّين، وجدناهم قد نزلوا منزلًا اختاروه مستويًا بساطًا واسعًا، أخذوا الشريعة، فهي في أيديهم، وقد صفّ أبو الأعور السلمي عليها الخيل والرجال، وقد قدّم المرامية أمام من معه، وصفّ صفًّا معهم من الرماح والدّرق، وعلى رءوسهم البيض، وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين، فخبّرناه بذلك، فدعا صعصعة ابن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنّا سرنا مسيرنا هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكفّ عنك حتى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلّتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب. فعلنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حصروه أربعين صباحًا يمتعونه برد الماء، ولين الطعام، اقتلهم عطشًا، قتلهم الله عطشًا! فقال له عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت رّيان؛ ولكن بغير الماء، فانظر ما بينك وبينهم. فأعاد الوليد بن عقبة مقالته؛ وقال عبد الله بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، ولو قد رجعوا كان رجوعهم فلًّا، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! فقال صعصعة: إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة وشربة الخمر؛ ضربك وضرب هذا الفاسق - يعني الوليد بن عقبة - قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه، فقال معاوية: كفوّا عن الرجل فإنه رسول.
قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا عمّا قال لمعاوية، وما كان منه وما ردّ، فقلنا: فما ردّ عليك؟ فقال: لما أردت الانصراف من عنده قلت: ما ترد علي؟ قال معاوية: سيأتيكم رأيي، فوالله ما راعنا إلا تسريته الخيل إلى أبي الأعور ليكفّهم عن الماء. قال: فأبرزنا علي إليهم، فارتمينا ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف، فنصرنا عليهم، فصار الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم؛ فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.
دعاء علي معاوية إلى الطاعة والجماعة
قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي، أنّ عليًّا قال: هذا يوم نصرتم فيه بالحميّة، وجاء الناس حتى أتوا عسكرهم، فمكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية أحدًا، ولا يرسل إليه معاوية. ثم إن عليًّا دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعي: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليّه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علي: ائتوه فالقوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه - وهذا في أول ذي الحجّة - فأتوه، ودخلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو، وقال: يا معاوية، إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرّق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها! فقطع عليه الكلام، وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدّين والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول . قال: فيقول مادا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية: ونطلّ دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا. فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن ربعي، فتكلّم فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفي علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربّ متمنّي أمر وطالبه، الله عز وجل يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمنّي أمنيته وفوق أمنيتّه، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحقّ من ربّك صلي النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله.
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أوّل ما عرفت فيه سفهك وخفّة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت، ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كلّ ما ذكرت ووصفت. انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلّا السيف. وغضب، وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهوّل بالسيف! أقسم بالله ليعجلن بها إليك. فأتوا عليًّا وأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في ذي الحجة، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان. وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدي الكندي، ومرّة شبث بن ربعي، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النضر الحارثي، ومرّة زياد بن خصفة التيمي، ومرّة سعيد بن قيس، ومرّة معقل بن قيس الرياحي، ومرّة قيس بن سعد. وكان أكثر القوم خروجًا إليهم الأشتر، وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد المخزومي، وأبا الأعور السلمي، ومرّة حبيب ابن مسلمة الفهري، ومرّة ابن ذي الكلاع الحميري، ومرة عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، ومرّة شرحبيل بن السمط الكندي، ومرّة حمزة بن مالك الهمداني، فاقتتلوا من ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين أوّله وآخره.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، قال: حدثني رجل من قومي أنّ الأشتر خرج يومًا يقاتل بصفيّن في رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، فخرج علينا رجل والله لقلّما رأيت رجلًا قطّ هو أطول ولا أعظم منه، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد إلّا الأشتر، فاختلفا ضربتين، فضربه الأشتر، فقتله، وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه، وسألناه ألّا يخرج إليه، فلما قتله الأشتر نادى مناد من أصحابه:
يا سهم سهم ابن أبي العيرار ** يا خير من نعلمه من زار
وزارة: حي من الأزد، وقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّي، فخرج فحمل على الأشتر، وعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يدي فرسه، وحمل فيه أصحابه فاستنقذوه جريحًا، فقال أبو رفيقة الفهمي: هذا كان نارًا، فصادف إعصارًا، واقتتل الناس ذا الحجّة كلّه، فلما انقضى ذو الحجّة تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض المحرّم، لعلّ الله أن يجري صلحًا أو اجتماعًا، فكفّ بعضهم عن بعض.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بأمر علي إيّاه بذلك، كذلك حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر.
وفي هذه السنة مات قدامة بن مظعون، فيما زعم الواقدي.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)