نها دمشق***





( كما يصفها الشاعر العراقي مظفر النواب )





*شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، حسد القاهرة، وحلم عمّان، ضمير مكة،*

*غيرة قرطبة، مقلة القدس، مغناج المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.‏‏‏‏‏*





*إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي*

*ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله خرافي لحضارات شنقت نفسها على*

*أبوابها.*



***‏‏‏‏‏*

*إنها دمشق الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله،*

*شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.‏‏‏‏‏*



* *

*من على شرفتها أطلّ هشام ليغازل غيمة أموية عابرة،"أنى تهطلي خيرك لي "*

*بعد أن فرغ من إرواء غوطتها بالدم، ومنها طار صقر قريش حالماً، ليدفن تحت*

*بلاطة في جبال البرينيه.‏‏‏‏‏*

**



*إنها دمشق التي تحملت الجميع، متقاعسين وحالمين، صغار كسبة وثوريين، عابرين*

*ومقيمين، مدمني عضها مقلمي أظفارها وخائبين وملوثين، طهرانين*

*وشهوانيين....*

**

*رَضَّعت حتى جفَّ بردى، فسارعت بدمها بشجرها وظلالها، ولما نفقت الغوطة،*

*أسلمت قاسيونها (شامتها الأثيرة) يلعقونه يتسلقونه، يطلون منه على جسدها،*

*ويدعون كل السفلة ليأخذوا حصتهم من براءتها، حتى باتت هذه مهنة من يحبها*

*ومن لا يقوى على ذلك لكنها دمشق تعود فتية كلما شُرِقَ نقي عظامها.‏‏‏‏‏*



**



*إنها دمشق أيها العرب العاربة والمستعربة قِبلة سياحكم، ومحط مطيكم، تمنح*

*لقب الشيخ لكل من لبس صندلا واعتمر دشداشة ولا تعترف إلا بشيخها محي*

*الدين بن عربي‏‏‏ ،هو من لم تتسع له الأرض، حضنته دمشق تحت ثديها وألبسته*

*حياً من أحيائها فغنى لها " كل ما لا يؤنث لا يعول عليه"*



**

*‏‏‏‏‏*

*إنها دمشق لا تعبأ باثنين، الجلادين والضحايا، تؤرشفهم وتعيدهم بعد لأي*

*على شكل منمنمات تزين بها جدرانها أو أخباراً في صفحات كتبها، فيتململ*

*ابن عساكر قليلا يغسل يديه ويتوضأ لوجه الله ويشرع بتغطيس الريشة في*

*المحبرة، لا ليكتب بل ليمرر الحبر على حروف دمشق المنجمة في كتابها*

*دمشق التي تتقن كل اللغات ولا أحد يفهم عليها إلا الله جل شأنه وملائكة
عرشه.‏‏‏‏‏*



**

*دمرَّ هولاكو بغداد وصار مسلماً في دمشق، حرر صلاح الدين القدس وطاب*

*موتاً في دمشق، قدم لها الحسين إبن علي ويوحنا المعمدان وجعفر البرمكي*

*رؤوسهم كي ترضى دمشق، وما بين قبر زينب وقبر يزيد خمس فراسخ ودفلى على*

*طريقة دمشق.*

**

*‏‏*

*إنها دمشق لا تحب أحداً، ولا تعبأ بكارهيها، متغاوية ووقحة تركت عشاقها*

*خارجاً بقسوة نادرة كي لا ينسفح الكثير من دمهم، وتتفرغ للغرباء الذين*

*ظنوا أنفسهم أسيادها ليستفيقوا فجأة وإذ بهم عالقين تحت أظافرها.‏‏‏‏‏*

**



*لديها من الغبار ما يكفي لتقص أثر من سرقها فتحيله متذرذراً على جسدها.‏‏‏‏‏*

*لديها من العشاق ما يكفي حبر العالم.‏‏‏‏‏ من الأزرق ما يكفي لتغرق*

*القارات الخمس .*

**



*لديها من المآذن ما يكفي ليتنفس ملحديها عبق الملائكة، ومن المداخن*

*ما يكفي "لتشحير" وجه الكون.‏‏‏‏‏*

**



*ولديها من الوقت ما يكفي لترتب قبلة مع مُذنَّب عابر، ومن الشهوة ما يدعو*

*نحل الكون لرحيقها.‏‏‏‏‏*

**



*لديها من الصبر ما يكفي لتنتشي بهزة أرضية، ومن الأحذية و"الشحاحيط "*

*المعلقة في سوق الحميدية ما يكفي للاحتفال بخمسين دكتاتور.‏‏‏‏‏*



**



*لديها من الحبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع، ومن الشرفات ما*

*يكفي سكان آسيا ليحتسوا قهوتها ويدخنوا سجائرهم على مهل.‏‏‏‏‏*

**



*لديها من القبل ما يكفي كل حرمان المجذومين، ومن الصراخ ما يكفي ضحايا*

*نكازاكي وهيروشيما‏‏‏‏‏*

*لديها من النهايات ما يكفي ثمانين ألف رواية، ومن الأجنة ما يكفي لتشغيل*

*الحروب القادمة.*

***‏‏‏‏‏*

*لديها شعراء بعدد شرطة السير، وقصائد بعدد مخالفات التموين، ونساء بكل*

*ألوان الطيف وما فوق وتحت البنفسجي والأحمر.‏‏‏‏‏ *

*لا فضول لدمشق، لا تريد أن تعرف ولا أن تسرع الخطى، ثابتة على هيئة لغز،*

*الكل يلهثُ يرمحُ يسبحُ، وهي تنتظرهم هناك إلى حيث سيصلون.‏‏‏‏‏*

**



*دمشق هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا تقبل القسمة على اثنين في*

*أرقى أحيائها تسمع وجع "الطبالة"، وفي ظلمة "حجرها الأسود" يتسلق كشاشي*

*الحمام كتف قاسيون ليصطادوا حمامة شاردة من "المهاجرين".‏‏‏‏‏*

**



*دمشق لا تُقسم إلى محورين، فليست كبيروت غربية وشرقية، ولا كما القاهرة*

*أهلي وزملكاوي ولا كما باريس ديغول وفيشي ولا هي مثل لندن شرق وغرب*

*نهر التايمز ولا كمدن الخليج العربي مواطنين ووافدين ولن تكون كعمّان*

*فدائيين وأردنيين، ولا كبغداد منطقة خضراء وأخرى بلون الدم ....‏‏‏‏‏*

**



*دمشق مكان واحد فإذا طرقت باب توما ستنفتح نافذة لك من باب الجابية وإذا*

*أقفل باب مصلى فلديك مفاتيح باب السريجة‏‏‏‏‏ وإن أضعت طريق الجامع الأموي ،*

*ستدلك عليه " كنيسة السيدة "*

**



*لا تتعب نفسك مع دمشق ولا تحتار فهي تسخر من كل من يدعي أنه يحميها*

*ومن يهدد بترويضها، فتود أن تعانقها أو تهرب منها، تلتقط لها صورة أو*

*تحمضها كلها، تود أن تدخلها فاتحاً أم سائحاً، مدافعا أو ضحية، ماحياً أو*

*متذكراً كل شيء دفعة واحدة.‏‏‏‏‏*

**



*فتخرج سيجارة حمرا طويلة تشعلها بخمسة أعواد كبريت ماركة" الفرس"، وتقول*

*جملة واحدة للجميع (إنها دمشق