« ولا هو. » حتى عدّد رجالا كان في آخرهم وكيع بن أبي سود. فقال:
« يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا عليّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل في الجماعة نابه في الفتنة. » قال:
« صدقت. ويحك! فمن لها؟ » قال:
« رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. » قال:
« فمن هو؟ » قال:
« لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك عليّ وأن يجيرني منه إن علم. » قال:
« نعم، سمّه لي من هو؟ » قال:
« يزيد بن المهلّب. » قال:
« ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان. » قال:
« قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو. » قال:
« أصبت. » فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثم سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع:
« انطلق إلى أميرك فتلقّه ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا. » وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم.
ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل قدوم أبيه.
فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لي:
« أتريد أن تنجو؟ » قلت:
« نعم. » قال:
« أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المرّى إلى قتيبة في خلع سليمان. » فقلت له:
« يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟ » قال: فدعا بطومار وقال:
« إنّك أحمق. » وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة:
« إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونيّ على خراسان، فاخلعه. » فقلت:
« يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها. » فلم يحفل وقال:
« قد قلت: إنّك أحمق. »
ذكر حيلة تمت على مسلمة بن عبد الملك في هذه السنة بأرض الروم حتى كاد يهلك هو والمسلمون
كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتى يأتى به قسطنطينية. فأمر بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثم قال للمسلمين:
« لا تأكلوا منه شيئا. » فغبروا في أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع.
فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون:
« إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك. » ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له:
« إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم. » فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم.
فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتى يدخل من الطعام من النواحي، [ وما ] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم في أمان من [ السباء ] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام وقد [ هيّأ ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [ فى ] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [ بها ]. فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [ و ] الورق، وكلّ شيء حتى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [ على ] أن يمدّهم حتى هلك سليمان.
سليمان يحرض يزيد بذكر فتوح قتيبة
فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب:
« أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟ » فيقول له يزيد بن المهلّب:
« ما فعلت جرجان [ التي ] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر. » ويقول:
« هذه الفتوح ليست بشيء في جرجان. » وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص كان صالح أهل جرجان. ثم إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق.
فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثم غزا مصقلة خراسان في أيّام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى:
وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: « حتى يرجع مصقلة من خراسان ».
اهتمام يزيد بن المهلب بجرجان
فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان، وبها صول التركيّ مع الأتراك، وهناك جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان.
فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له:
« ما أقدمك؟ » قال:
« خفت صولا فهربت منه. » فقال له يزيد:
« هل من حيلة لقتاله؟ » قال:
« نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده. » قال:
« ما هو؟ » قال:
« أن يخرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر هذه الحيلة التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتى ظفر به
فكتب يزيد بن المهلّب إلى صاحب طبرستان:
« إني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت، إن بلغه أنّى أريد ذلك أن يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأت البحيرة، حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له بكلّ حيلة حتى تحبسه بجرجان، فإن أقام ظفرت به. » فلمّا أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلمّا أتى صولا الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها. فخرج إلى جرجان في ثلاثين ألفا ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكسّ ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلّب.
دخول يزيد بن المهلب جرجان
وأقبل حتى أتى جرجان ولم تكن يومئذ مدينة، إنّما هي جبال محيطة بها أبواب ومخارم يقوم عليها الرجل فلا يقدم عليه أحد. فدخلها يزيد لم يعازّه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان عمّ فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صول، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه في الأيّام فيقاتله ثم يرجع إلى حصنه، حتى عجزوا وانقطعت عنهم المواد.
فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد:
« لا إلّا على حكمي. »
فأبى. فأرسل إليه:
« إني أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصّتى على أن تؤمننا فننزل البحيرة. » فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممّن أحبّ، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبرا ومن على آخرين، وقال الجند ليزيد:
« أعطنا أرزاقنا. » فدعا إدريس بن حنظلة العمّى، فقال له:
« يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطى الجند. » فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد:
« فيها ما لا يستطاع إحصاؤه في هذه السرعة. وهناك ظروف. فتحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثم تقول للجند: أدخلوا فخذوها. فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه. » قال:
« نعم ما رأيت. » ففعلوا ذلك، وقال للجند:
« خذوا. » فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما، أو حمل من شيء فيكتب على كلّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا.
طمع يزيد بن المهلب في طبرستان
ولمّا فرغ يزيد من صول طمع في طبرستان أن يفتتحها، وهمّ بالمسير إليها.
فاستعمل عبد الله المعمر اليشكري على دهستان البياسان، وضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل اندرشان أسد بن عمرو، ويقال: بل ابنا لعبد الله بن المعمّر وضمّ إليه أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغّلها. فأبى يزيد، ورجا أن يفتتحها. فوجّه أخاه أبا عيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال:
« إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. » فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة، ووصّى يزيد أبا عيينة بأن يشاور هريما وقال:
« هو ناصح وذو رأى. » وأقام يزيد معسكرا واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان والديلم، فأتوه والتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون، واتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنشّاب، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفّ العدوّ عن اتّباعهم.
وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان:
« إنّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل أنت من في البياسان من العرب. » فخرج إلى البياسان والمسلمون غارّون في منازلهم فقتلوا جميعا في ليلة.
وأصبح عبد الله بن المعمّر مقتولا في أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحدا وقتل من بنى عمّ يزيد خمسون رجلا، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ:
« إني قد قتلت من عندي من العرب، فخذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك. » وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم.
ففرغ يزيد إلى حيّان النبطيّ وقال:
« لا يمنعنّك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين. » وكان يزيد قد غرّم حيّان مائتي ألف درهم - وسنذكر ذلك - وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثم بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له:
« اعمل في الصلح. » قال:
« أفعل. » فأتى حيّان الإصبهبذ وقال له:
« أنا رجل منكم وإن كان الدين فرّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنّك أحبّ إليّ على كلّ حال من يزيد، وقد بعث يستمدّ وأمداده منه قريبة، وإنّما أصابوا منه طرفا، ولست آمن أن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسك منه وصالحه، فإنّك إن صالحته صيّر حدّه على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا. » فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف، ويروى خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كلّ رجل جام فضّة وسرقة حرير وكسوة. ثم رجع إلى يزيد وقال:
« ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه. » قال:
« من عندهم، أو من عندنا؟ » قال:
« من عندهم. » وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من يحمل ما صالحهم عليه حيّان، وانصرف إلى جرجان.
فأمّا سبب تغريم يزيد حيّان مائتي ألف درهم وخوفه أنّه لا يناصحه، فهو أنّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه:
« من حيّان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد. » فقال له ابنه مقاتل بن حيّان:
« يا أبه تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. » فقال:
« نعم يا بنيّ. فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة. » وتمّم كتابه وأنفذه إلى مخلد. فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
يزيد بن المهلب يفتح جرجان الفتح الآخر
ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.
فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه في الأيّام ويقاتلونه ثم يرجعون إلى حصنهم.
فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا في الطريق يرقى في الجبل فاتّبعه وقال لمن معه:
« قفوا مكانكم. » ووقل في الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتى ظفر بأصحابه ينتظرون. ثم رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.
فلمّا رءاه يزيد قال:
« ما عندك؟ » فقال:
« أتريد أن تدخل وجاة بغير قتال؟ » قال:
« نعم. » قال:
« جعالتي؟ » قال:
« احتكم. » قال:
« أربعة آلاف. » قال:
« بل أضعافها. » قال:
« عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الأحساب. » فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال:
« الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض. »
فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه:
« إن غلبت على الحياة، فلا تغلبن علي الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما. » وقال للناس:
« إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتى إذا كان في السحر فكبّروا، ثم توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها. » فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلّا قتله.
وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم إلّا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون.
غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتى قتلوهم.
يزيد بن المهلب يدخل باب جرجان ويبر يمينه في أهلها
وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا إلى اندر هرز وادي جرجان وقال:
« من طلبهم بثأر فليقتل. »
فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة في الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة.
وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم ذلك قال:
« إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله. » وكتب في الكتاب أن:
« قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذي حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. »
ذكر رأي أشير به على يزيد بن المهلب فلم يقبله فعاد وبالا عليه
فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرّة:
« لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته في دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثم تشافهه بما أحببت وتقصّر في الكتاب. فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر. »
فأبى يزيد وأمضى الكتاب.
ودخلت سنة تسع وتسعين
وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر.
فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس.
خلافة عمر بن عبد العزيز
واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.
قال رجاء بن حبوة: فقلت:
« ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. » فقال سليمان:
« أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه. » قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرّقه ودعاني، فقال:
« ما ترى في داود بن سليمان؟ » يعنى ابنه. قلت:
« هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ هو أم ميّت. » فقال لي:
« فمن ترى؟ » قلت:
« رأيك يا أمير المؤمنين. » « وأنا أريد أن أنظر من يذكر. » قال:
« كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ » فقلت:
« أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. » فقال:
« هو والله على ذلك. » ثم قال:
« والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده. » ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال:
« فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به. » قلت:
« رأيك. » فكتب:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إني ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك.
فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم. » وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء:
« اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه. » ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: « ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين. » قال:
« نعم. »
فدخلوا. فقال لهم سليمان:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حبوة - عهدي. فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سمّيت في هذا الكتاب. » فبايعوه رجلا رجلا.
قال: ثم خرج بالكتاب مختوما.
قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز، فقال:
« إني أخشى أن يكون هذا قد أسند إليّ شيئا من الأمر. فأنشدك الله وحرمتي ومودّتى إلّا أعلمتنى إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتى حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة. » قال رجاء:
« لا والله، ما أنا بمخبرك حرفا. » فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال:
« يا رجاء، إنّ لي بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمني فإن كان إليّ علمت، وإن كان إلى غيري تكلّمت، فليس مثلي قصّر به ذلك، ولك الله عليّ ألّا أذكر من ذلك شيئا أبدا. » قال رجاء: فأبيت وقلت:
« لا والله، لا أخبرك حرفا واحدا ممّا أسرّ إليّ. » قال: فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول:
« فإلى من إذا نحّيت عني! أتخرج من بنى عبد الملك؟ »
قال رجاء: ودخلت على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقّنته الشهادة، وحرّفته إلى القبلة، وسجّيته، وأجلست على الباب من أثق به، ووصّيته ألّا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. ثم خرجت وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتى جمع أهل بيت أمير المؤمنين في مسجد دابق، وتوسّطتهم إلى المنبر، وقلت:
« بايعوا! » فقالوا:
« قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى. » قلت:
« هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمّى في هذا الكتاب المختوم. » فبايعوا الثانية رجلا رجلا. فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيت أنّى قد أحكمت الأمر. قلت:
« قوموا إلى صاحبكم فقد مات. » قالوا:
« إنّا لله وإنّا إليه راجعون. » وقرأت الكتاب عليهم. فلمّا انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك:
« لا نبايعه أبدا. » قلت:
« أضرب والله عنقك. قم فبايع من قد بايعته مرّتين. » فقام يجرّ رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه.
ولمّا كفّن سليمان وصلّى عليه عمر ودفنه وأتى بمراكب الخلافة من البراذين والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس مفرد، فقال:
« ما هذا؟ » قالوا:
« مراكب الخلافة. » قال:
« دابّتى أوفق لي. » وركب دابّته وصرفت تلك الدوابّ. ثم أقبل سائرا. فقيل له:
« منزل الخلافة. » فقال:
« فيه عيال أبي أيّوب - يعنى سليمان - وفي فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا. » فأقام في منزله حتى فرّغوه من بعد.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال بكلّ بلد بما صار إليه، فأوجز وأحسن.
ثم وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عتاق وأموال عظيمة.
وعزل يزيد بن المهلّب عن العراق، ووجّه على البصرة عديّ بن أرطاة الفزاريّ، وبعث على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب من بنى عديّ بن كعب. فضمّ إليه أبا الزياد، فكان أبو الزياد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن. وبعث عديّ في إثر يزيد بن المهلّب موسى بن الوجيه الحميري.
ودخلت سنة مائة
وفيها خرجت الخارجة على عمر بن عبد العزيز بالعراق
فكتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب عامله على العراق، يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنّة نبيه ففعل.
ولمّا أعذر في دعائهم، بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحروريّة، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهّزهم من الرقّة.
وكتب إلى عبد الحميد:
« قد بلغني ما فعل جيشك السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخلّ بينه وبينهم. » فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم.
وكان هذا الخارجيّ بسطام من بنى يشكر ويلقّب شوذب، وكان خروجه في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة. وكان عمر كتب إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه ويقول في كتابه:
« بلغني أنّك خرجت غضبا لله ولنبيه ولست بأولى بذلك مني. فهلمّ أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت في ما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك. » فأمسك بسطام عن الحرب ولم يحرّك ساكنا، وكتب إلى عمر:
« قد أنصفت. وقد بعثت إليك رجلين يدار سانك ويناظرانك. » فلمّا وصل الرجلان إلى عمر، أطالا معه حتى قالا له:
« أخبرنا عن يزيد، لم تقرّه خليفة بعدك. » قال:
« صيّره غيري. » قالا:
« أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك عليها؟ » فقال:
« أنظرني ثلاثا. » فخرجا من عنده. وبلغ ذلك مروان، فخافوا أن يخرج ما في أيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد. فدسّوا إليه من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلّا ثلاثا حتى مات.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)