كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعمرو بإسنادهم، وسعيد بن المرزبان، قالوا: بعث عمر الأطبة، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباص وقسمة الفئ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي؛ قال: والترجمان هلال الهجري والكاتب زياد بن أبي سفيان. فملا فرغ سعد من تعبيته، وعد لكل شئ من أمره جماعًا ورأسًا، كتب بذلك إلى عمر، وكان من أمر سعد فيما بين كتابه إلى عمر بالذي جمع عليه الناس وبين رجوع جوابه ورحله من شراف إلى القادسية قدوم المعنى بن حارثة وسلمى بنت خصفة التيمية؛ تيم اللات، إلى سعد بوصية المثنى، وكان قد أوصى بها، وأمرهم أن يعجلوها على سعة بزرود، فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر؛ وذلك أن الآزاذمرد بن الآزاذبه بعثه إلى القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك. فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيدًا. فملا انتهى إلى المعنى خبره، اسرى المعنى من ذي قار حتى بيته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار، وخرج منها هو وسلمى إلى سعد بوصية المثنى بن حارثة ورأيه، فقدموا عليه وهو بشراف، يذكر فيها أن رأيه لسعد ألا يقاتل عدوه وعدوهم - يعني المسلمين - ومن أهل فارس؛ إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم؛ وإن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم.
فلما انتهى إلى سعد رأى المثنى ووصيته ترحم عليه، وأمر المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيرًا، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها؛ وكان في الأعشار كلها بضعة وسبعون بدرياُ، وثلثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب. وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأى المثنى؛ وقد كتب إلى أبي عبيدة مع كتاب سعد؛ ففصل كتاباهما إليهما، فأمر أبا عبيدة في كتابه بصرف أهل العراق وهم ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم؛ وكان كتابه إلى سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين؛ وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله؛ واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلا - كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه؛ إلا أن توافقوا غيضًا من فيض، وإذا لقيم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الشدة والضرب، وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم؛ فإنهم خدعة مكرة؛ أمرهم غير أمركم؛ إلا أن تجادوهم، وإذا انتهت إلى القادسية - والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لما دتهم، ولما يريدونه من تلك الآصل؛ وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر، وأنهار ممتنعة - فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر، والجزاع بينهما؛ ثم الزم مكانك فلا تبرحه؛ فإنهم إذا أحسوك أنغضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم؛ فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة؛ رجوت أن تنصروا عليهم؛ ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبدًا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم؛ فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم؛ ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل؛ حتى يأتى الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.
وكتب إليه أيضًا باليوم الذي يرتحل فيه من شراف: فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.
ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد، فتعاهد قبلك، وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما؛ والصبر الصبر؛ فإن المعونة تأتى من الله على قدر النية؛ والأحر على قدر الحسنة. والحذر الحذر على من أنت عليه وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واكتب إلى أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؛ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم؛ فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنى أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه، ولا تدل بشئ. واعلم أن الله قد وعدكم. وتوكل لهذا الأمر بما لا خلف له؛ فاحذر أن تصرفه عنك، ويستندل بكم غيركم.
فكتب إليه سعد بصفة البلدان: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين؛ فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض؛ يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة؛ وما عن يمين القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم. وإن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلى ألب لأهل فارس قد خفوا لهم، واستعدوا لنا. وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال منهم؛ فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا؛ ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم؛ وأمر الله بعد ماض؛ وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا؛ فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.
فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك؛ واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن؛ فإنه خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، ويدعون له معه، وللمسلمين عامة، فقدم زهرة سعد حتى عسكر بعذيب الهجانات، ثم خرج في أثره حتى ينزل على زهرة بعذيب الهاجنات، وقدمه، فنزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنظرة؛ وقديس يومئذ أسفل منها بميل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القعقاع بإسناده، قال: وكتب عمر إلى سعد: إني قد أقى في روعى أنكم إذا لقيم العدو هزكتمزهم، فاطرحوا الشك، وآثروا التقية عليه؛ فإن لاعب أحد منكم أحدًا من العجم بأمان أو قرفة بإشارة أو بلسان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أمانًا؛ فأجروا ذلك له مجرى الأمان. وإياكم والضحك؛ والوفاء الوفاء! فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحكم. واعلموا أنى أحذركم أن تكونوا شيئًا على المسلمين وسببًا لتوهينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن مسلم العكلى والمقدام بن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بن أبي كرب العكلى - وكان في المقدمات أيام القادسية - قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل؛ فلما نزل علينا بعذيب الهاجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الحوية في المقامات، فلما رفع لنا العذيب - وكان من مسالحهم - استبنًا على بروجه ناسًا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلًا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلًا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد؛ وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه. وقال: إن أفلت الربئ أتاهم الخبر. فلحقه بالخندق فطعنه فجد له فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحًا ونشابًا وأسفاطًا من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون. ثم بث الغازات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي - وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس - فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأٌاموا كمينًا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم؛ وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدنهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين؛ وإذا أخت آزاذ مردبن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين - وكان من أشرف العجم - فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا؛ فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم مالا يدري قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعدًا بعذيب الهجانات بما أفاء الله على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين
بقيته، فوقع منهم موقعًا، ووضع سعد بالعذيب خيلًا تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم؛ وبعث بخبر سرية يكبر، وبنزوله قديسًا، فأقام بها شهرًا، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم غلينا أحدًا، ولم يسندوا حربًا إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به؛ واستنصر الله، فإنا بمنحاة دنيا عريضة؛ دونها بأس شديد؛ قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: (ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد). وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أنى ميسان فطلب غنمًا أو بقرًا فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلًا على طف أجمة، فسأله واستد له على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم؛ وإذا هو راعى ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء؛ فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أيامًا؛ وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بن عمرو والوليد بن عبد شمس وزاهر، فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك؛ إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا الله، وفتح عدونا؛ فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم؛ فأما ما رأينا فإنا لم نر قومًا قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضًا؛ ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث؛ لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول؛ وكان هذا اليوم يوم الأباقر؛ وبث الغازات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زمانًا، وبعث سعد عيونًا إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس؛ فرجعوا إليه بالخبر؛ بأن الملك قد ولى رستم بن الفرخزاذ الأزمنى حربه، وأمره بالعسكرة. فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به؛ واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالًا من أهل المنظرة والرأى والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجًا عليهم؛ واكتب إلى كل يوم. ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن بن سيرين، وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قالا: لما بلغ سعدًا فصول رسم إلى ساباط، أقام في عسكره لاجتماع الناس؛ فأما إسماعيل فإنه قال: كتب إليه سعد أن رستم قد ضرب عسكره بساباط دون المدائن وزحف إلينا؛ وأما أبو ضمرة فإنه قال: كتب إليه أن رستم قد عسكر بساباط، وزحف إلينا بالخيول والفيول وزهاء فارس، وليس شئ أهم إلى ولا أنا له أكثر ذكرًا منى لما أحببت أن أكون عليه؛ ونستعين بالله، ونتوكل عليه، وقد بعثت فلانًا وفلانًا وهم ما وصفت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد بإسنادهما، وسعيد بن المرزبان؛ أن سعد بن أبي وقاص حين جاءه أمر عمر فيهم، جمع نفرًا عليهم نجار، ولهم آراء، ونفرًا لهم منظر؛ وعليهم مهابة ولهم آراء؛ فأما الذين عليهم نجار لهم آراء ولهم اجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وحملة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع التميمي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن البناش بن حبيب؛ وأمامن لهم منظر لأجسامهم؛ وعليهم مهابة ولهم آراء؛ فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة؛ فبعثهم دعاة إلى الملك.
حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية، ومعه الناس، قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركين ثلاثون ألفًا أو نحو ذلك: فقالوا لنا: لا يدى لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قال: قلنا: لا نرجع؛ وما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا، ويقولون: دوك دوك، ويشيهونها بالمغازل. قال: فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلًا منكم، عاقلًا يبين لنا ما جاء بكم؛ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، فعبر إليهم، فقعد مع رستم على السرير، فنخروا وصاحوا، فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم، قال رستم: صدقت، ماجاء بكم؟ قال: إنا كنا قومًا في شر وضلالة؛ فبعث الله فينا نبيًا، فهدانا الله به ورزقنا على يديه؛ فكان مما رزقنا حبة زعمت تنبت بهذا البلد؛ فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عن هذه، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة، فقال رستم: إذًا نقتلكم، فقال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار؛ أو أديتم الجزية. قال: فلما قال: أديتم الجزية، نخروا وصالحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، فقال المغيرة: تعبرون غلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نبد إليكم، فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر، فحملوا عليهم فهزموهم.
قال حصين: فحدثني رجل منا يقال له عبيد بن جحش السلمى، قال: لقد رأيتنا وإنا لنطأ على ظهور الرجال، ما مسهم سلاح، قتل بعضهم بعضًا، ولقد رأينا أصبنا جرابًا من كافور، فحسبناه ملحًا لا نشك أنه ملح؛ فطبخنا لحمًا، فجعلنا نلقه في القدر فلا نجد له طعمًا، فمر بنا عبادي معه قميص فقال: يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم؛ فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه، هل لكم أن تأخذوا هذا القميص به؟ فأخذناه منه، وأعطيناه منا رجلًا يلبسه، فجعلنا نطيف به ونعجب منه، فلما عرفنا الثياب، إذا ثمن ذلك القميص درهمان. قال: ولقد رأيتني أقرب إلى رجل عليه سواران من ذهب، وسلاحه، فجاء فما كلمته حتى صربت عنقه.
قال: فانهزموا حتى انتهوا إلى الصراة؛ فطلبناهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن؛ فكان المسلمون بكوثى وكان مسلحة المشركين بدير المسلاخ، فأتاهم المسلمون فالتقوا، فهزم المشركون حتى نزلوا بشاطئ دجلة، فمنهم من عبر من كلواذى، ومنهم من عبر من أسفل المدائن، فحصروهم حتى ما يجدون طعامًا يأكلونه، إلا كلابهم وسنانيرهم. فخرجوا ليلًا، فلحقوا بجلولاء فأتاهم المسلمون؛ وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة، وموضع الوقعة التي ألحقهم منها فريد. قال أبو وائل: فبعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على أهل الكوفة، ومجاشع بن مسعود على أهل البصرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، وطلحة عن المغيرة، قالوا: فخرجوا من العسكر حتى قدموا المدائن احتجاجًا ودعاة ليزدجرد، فطووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول عروات، معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه يستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقوله لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفي أيديهم سياط دقاق، وفي أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فأدخلوا عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب. قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم؛ فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضًا. وجلع أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم؛ فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس؛ وكان سيئ الأدب، فكان أول شئ دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان - وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الحذية؟ فقال: النعال، فعاد لمثلها، فقال: ناله ناله في أرضنا، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم الله! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم؛ ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان، فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين؛ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب؛ وبدأ بهم وفعل؛ فدخلوا معه جميعًا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط؛ وطائع أتاه فازداد؛ فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كما عليه من العداوة والضيق؛ ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء؛ فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم؛ وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم؛ وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم؛ قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم. لا تغزون فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم؛ وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.
فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدى، فقال أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم؛ وهم أشراف يستحيون من الأشراف؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك؛ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأنا ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات؛ فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأل من طعامنا؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك؛ فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبة، ونعرف وجهه ومولده؛ فأرضه خير أرضنا، وحسبة خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا؛ وقبيلته خير قبائلنا؛ وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي فيها أصدقنا وأحملنا؛ فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصثديق له واتباعه؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله؛ فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شئ، وكل شئ هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شئ، وإلى يصير كل شئ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري؛ دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوا مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من نأوأه؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر؛ وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجى نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أأستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم؛ لا شئ لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن؛ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنى مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو - وافتأت ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملينه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها؛ ثم انجذب في السير، فأتوا به سعدًا وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبر الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم.
وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهنًا، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا على وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابًا منهم؛ وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمرًا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابًا فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء أتقى بغيره؛ وأنا لا أعلم.
قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.
وخرج رستم من عنده كئيبًا غضبان - وكان منجمًا كاهناُ - فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه سلبكم الله أرضكم وأبناءكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ماكان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا؟ فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظًا. وأغاروا بعدما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكًا، وسار سواد بن مالك التيمي إلى النجاف والفراض إلى جنبها، فاستاق ثلثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكًا، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبى؛ وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذ مرد بن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السليحين؛ حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زمانًا؛ فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام الحم يوم الأباقر ويم الحيتان. وبعث مالك بن ربيعة بم خالد التيمي؛ تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى؛ فأغاروا على الفيوم؛ فأصابا إبلًا لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس. وأخصبوا، وأغار على النهرين عمرو بن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى - وهي اليوم نهر زياد - حتى أتوا بها العسكر.
وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران. وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشئ. وكان مقام سعد بها شهرين وشيئًا حتى ظفر.
وقال - والإسناد الأول -: وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غض، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم؛ وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد الله بن زيد يسانده؛ الرباب بينهما، وجزء بن معاوية وابن النابغة يسانده؛ سعد بينهما، والحصين بن نيار والأعور بن يشامة يسانده على عمرو، والحصين بن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم. وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضى وجميع تلك الفرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شئ؛ وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات؛ وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شئ لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم.
ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه؛ وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولى آل أردشير. فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه.
فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم.
فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت. فقال: ليس كذلك؛ إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى؛ إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوى إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شئ اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته؛ وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته؛ وأشد شئ يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدًا؛ وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت؛ فهذا مثلهم ومثل الأعاجم؛ فاعمل على قدر ذلك. فقال له رستم: أيها الملك، دعني؛ فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي؛ ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب؛ فإن الرأى فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر. فأبى عليه، وقال: أي شئ بقى! فقال رستم: إن للأناة في الحرب خير من العجلة، والأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعًا لإعفائه وبعثه غيره، ويجتمع إليه الناس. وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك. ولما كثرت الاستغاثة على يزدجر من أهل السواد على يدى الآزاذ به جشعت نفسه واتقى الحرب برستمر، وترك الرأي - وكان ضيفًا لجوجًا - فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك؛ لقد اضطرني تضييع الرأى إلى إعظام نفسي وتزكيتها؛ ولو أجد من ذلك بدًا لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وأهلك وملكك؛ دعنى أقم بعسكري وأسرح الجالنوس؛ فإن تكن لنا فذلك؛ وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدًا ولا حيلة صبرنا لهم؛ وقد وهنا هم وحسرناهم ونحن جامون. فأبى إلا أن يسير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري الضبى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آله الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفًا، وقال: ازحف زحفًا، ولا تنجذب إلا بأمري؛ واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بن بهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم ليشجع الملك: إن فتح الله علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به. فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب،. وسأل الملك أن يمضى الجالنوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالنوس كغنائي، وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما؛ فإني لا أزال مرجوًا في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيبًا في صدرور العرب؛ ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم؛ فإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم. فبعث مقدمته أربعين ألفًا؛ وخرج في ستين ألفًا، وساقته في عشرين ألفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم؛ قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.
كتب إلي السري عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبن الباب، وسهم أهل، الذي كان لكل كون يكون، فيفض الله به كل جند عظيم شديد، ويفتح به كل حصن حصين، ومن يليه؛ فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأي مدافتهم ومطاولتهم حتى تعود سعود هم نحوسًا؛ فأبى الملك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل؛ أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة، واعتل الميزان، وذهب بهرام؛ ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا. وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسير إليهم أنا بنفسي. فأنا سائر إليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوًا من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: إني أحب أن تخبرني بشئ أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلنى، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شئ في فيه ها هنا - وخط دارة - فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذي في فيه درهم. وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب؛ هو عقيق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا. ينزو الدرهم فيستقر ها هنا - ودور دارة أخرى - فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه؛ فأتيا ببقرة نتوج؛ فقال الهندي: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من ها هنا أتى زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إل جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم؛ فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ! فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى المعنى؛ وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم. وأهدى للمعنى فالوذق، فقال لأمرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال المعنى: بؤسًا لها! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بدًا من الإنقياد. وأمر الجالنوس حتى قدم الحيرة؛ فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم وأمر الجالنوس حتى ينزل بكوني، وكتب إلى الجالنوس والآززاذ مرد: أصيبا لي رجلًامن العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة فأصابا رجلًا، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)