خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله.
الفن الأول
كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى أطال الله بقاءك يا ابن ذرى السادات، وعرى السعادات، الذين من استمسك بهديهم سعد في دار الدنيا، ودار الأبد، وزينك بجميع ملابس الفضيلة وطهرك من جميع طبع الرذيلة. إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة التي حدها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، لا الفعل سرمداً، لأنا نمسك وينصرم الفعل إذا انتهينا إلى الحق. ولسنا نجد مطلوباتنا من الحق من غير علة، وعلة وجود كل شيء وثباته الحق: لأن كل ما له أنية له حقيقة، فالحق اضطراراً موجود إذن الأنيات موجودة. وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف: لأن علم العلة أشرف من علم المعلول، لأنا إنما نعلم كل واحد من المعلومات علماً تاماً إذا أحطنا بعلم علته. لأن كل علة إما أن تكون عنصراً، وإما صورة وإما فاعلة: أعني ما منه مبدأ الحركة، وإما متممة: أعني ما من أجله كان الشيء. والمطالب العلمية أربعة كما حددنا في غير موضع من أقاويلنا الفلسفية: إما هل، وإما ما، وإما أي، وإما لم، فأما هل فإنها باحثة عن الأنية فقط؛ وإن كل أنية لها جنس، فإن ما تبحث عن جنسها، وأي تبحث عن فصلها، وما وأي تبحثان عن نوعها، ولم عن علتها التمامية إذ هي باحثة عن العلة المطلقة. وبين أنا متى أحطنا بعلم من عنصرها فقد أحطنا بعلم جنسها، ومتى أحطنا بعلم صورتها فقد أحطنا بعلم نوعها، وفي علم النوع علم الفصل، فإذا أحطنا بعلم عنصرها، وصورتها، وعلتها التمامية، فقد أحطنا بعلم حدها. وكل محدود فحقيقته في حده. فبحق ما سمي علم العلة الأولى الفلسفة الأولى، إذ جميع باقي الفلسفة منطو في علمها. وإذن هي أول بالشرف وأول بالجنس، وأول بالترتيب من جهة الشيء الأتقن علميه، وأول بالزمان إذ هي علة الزمان. ومن أوجب الحق ألا نذم أحد من كان أحد أسباب منافعنا الصار الهزلية، فكيف بالذين هم أكثر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدية. فإنهم وإن قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنساباً وشركاء فبما أفادونا من ثمار فكرهم، التي صارت لنا سبلاً وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصروا من نيل حقيقته. وسيما إذ هو بين عندنا، وعند المبرزين من المتفلسفين قبلنا من غير أهل لساننا، إنه لم ينل الحق، بما يستأهل الحق، حد من الناس بجهد طلبه، ولا أحاط به جميعهم، بل كل واحد منهم إما لم ينل منه شيئاً، وإما نال منه شيئاً يسيراً بالإضافة إلى ما يستأهل الحق. فإذا جمع يسير ما نال كل واحد من النائلين من الحق منهم اجتمع من ذلك شيء له قدر جليل. فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلاً عمن أتى بكثير من الحق: إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسهلوا لنا الخفية الحقية، بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سبل الحق. فإنهم لو لم يكونوا لم يجتمع لنا من شدة البحث في مددنا كلها هذه الأوائل الحقية، التي بها خرجنا إلى الأواخر من مطلوباتنا الحقية. فإن ذلك إنما اجتمع في الأمصار السالفة المتقادمة عصراً بعد عصر إلى زماننا هذا، مع شدة البحث ولزوم الدأب، وإيثار التعب في ذلك. وغير ممكن أن يجتمع في من المرء الواحد وإن اتسعت مدته واشتد بحثه، ولطف نظره، وآثر الدأب ما اجتمع بمثل ذلك من شدة البحث وإلطاف النظر وإيثار الدأب في إضعاف ذلك من الزمان الأضعاف الكثيرة. فأما أرسطو طاليس مبرز اليونانيين في الفلسفة فقال: ينبغي أن نشكر آباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلاً عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق فما أحسن ما قال في ذلك. وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق. وليس يبخس الحق، ولا يصغر بقائله ولا بالآتي به. ولا أحد بخس الحق؛ بل كان يشرفه الحق. يحسن بنا، إذا كنا حراصاً على تتميم نوعنا - إذ الحق في ذلك - أن نلزم في كتابنا هذا عاداتنا في جميع موضوعاتنا من إحضار ما قال القدماء في ذلك قولاً تاماً على أقصد سبله وأسهلها سلوكاً على