الفصل السابع و الأربعون: في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حمير و ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه. و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن. و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة. فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد. و الثاني: لمن سمعه فتردد فيه، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد. و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم. و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك. و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب. و هو بعض من أحكام اللسان. و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى. و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه. و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا. و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها. و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا. و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح. و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه. و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى. و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها. و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة. و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري. و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، و أن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار، و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم. و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، و لم تدغم. ثم إن أهل
العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف. على أنها حرف مستقل، و هو بعيد. و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، و أنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله. و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، و إنهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. و الله الهادي المبين. الفصل الثامن و الأربعون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد. فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا. و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه. و هذا معنى اللسان و اللغة. و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد. و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى. و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق. أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة. و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد. و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة. و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. و الله يخلق ما يشاء و يقدر.
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال. و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر. و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها. و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه.
الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي ، و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.
الفصل الواحد و الخمسون: في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان. و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل و بغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل. و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي. و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع. و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك. و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم. و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. و مثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها. و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه. و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم. و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه. و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق. و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك. و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم. و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة. و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنما حصل أحكامها كما عرفت. و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط. و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته. و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء. و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.
الفصل الثاني و الخمسون: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. و اعتبر ذلك في أهل الأمصار. فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله. و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا. و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف. و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا. و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية. و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها. و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية. و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه. ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم. ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده. و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها. و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس. و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و
العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق. و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم. و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية. و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم. واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها. و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه. و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه. الفصل الثالث و الخمسون: في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية. و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام. فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها. و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم. و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. و قال: قد فصلنا الآيات. و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف. و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني. و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه. و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك. و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض. و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن. و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق. و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب. و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة. و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة. و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه. و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه. و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك. و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه. و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم.
الفصل الرابع و الخمسون: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر. و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة. و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه. و كذا البربري و الرومي. و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي. و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان. و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع. و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم. و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. و الله خلقكم و ما تعملون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)