السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


مظاهر الدلالة الصوتية

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب، وتوهج العبارة في منظار حياتهم، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله، وتناغم الحروف في تركيبه، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه، ومع دلالته السمعية من وجه آخر، فالذي يستلذه السمع، وتسيغه النفس، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة، والذي يشرأب له العنق، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وإيجاباً.
وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها، والتي كونت كلمة معين في النص، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً، رقةً أو خشونة، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة، أو إذكاء الحفيظة، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً، أو بتناغم الكلمة وحدها، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.
إن إيقاع اللفظ المفرد، وتناغم الكلمة الواحدة، عبارة عن جرس موسيقي للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن، أو أثر عند المتلقي، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية: "التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها". فتوحي بأثر موسيقي خاص، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة: الألم، البهجة، اليأس، الرجاء، الرغبة، الرهبة، الوعد، الوعيد، الانذار، التوقع، الترصد، التلبث.. إلخ.
ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة، تختلف _ دون شك _ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه، مما يجعل كلمة ما دون كلمة _ وإن اتحدا بالمعنى، لها استقلاليتها الصوتية، إما في الصدى المؤثر، وإما في البعد الصوتي الخاص، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى، وإما بإقبال العاطفة، فهي حيناً تصك السمع، وحيناً تهيئ النفس، وحيناً تضفي صيغة التأثر: فزعاً من شيء، أو توجهاً لشيء، أو طمعاً في شيء؛ وهكذا.
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة، تكونت من حروف مختارة، فكشلت أصواتاً مختارة، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى، ومجالات عديدة، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.
قال الخطابي (ت: 383 _ 388 هجري) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة: "لفظ حاصل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفضح، ولا
أجزل، ولا أعذب من ألفاظه".
وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ، والتأثير النفسي للكلمة، والمدلول الانفعالي بالحدث، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.
دلالة الفزع الهائل:
استعمل القرآن طائفة من الألفاظ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها، فكانت دالة على ذاتها بذاتها، فالفزع مثلاً، والشدة، والهدة، والاشتباك، والخصام، والعنف، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.
1 _ قف عند مادة صرخ في القرآن، والصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع، والصراخ الصوت الشديد. لتلمس عن كثب، وبعفوية بالغة: الاستغاثة بلا مغيث، في قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيَها رَبَّنَاَ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً}. مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته، والاضطراب قد تجاوز مداه، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض، فلا أذن صاغية، ولا نجدة متوقعة، فقد وصل اليأس أقصاه، والقنوط منتهاه، فالصراخ في شدة إطباقه، وتراصف إيقاعه، من توالي الصاد والطاء، وتقاطر الراء والخاء، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي "والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة: افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق، ويوافق التاء في المخرج".
والإصراخ هو الإغاثة، وتلبية الصارخ، وقوله تعالى: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ}. تعني البراءة المتناهية، والإحباط التام، والصوت المجلجل في الدفع، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً، ولا ينجي أحدهم الآخر من عذاب الله، ولا يغيثه مما نزل به، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة، وتلك النازلة، فلا الشيطان بمغيثهم، ولا هم بمغيثيه.
والصريح في اللغة يعني المغيث والمستغيث، فهو من الأضداد، وفي المثل: عبد صريخه أمة، أي ناصره أذل منه. وقد قال تعالى: {فَلاَ صَريخَ لَهُم وَلاَ هُم يُنقَذُونَ} . فيا له من موقف خاسر، وجهد بائر، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة، ولا إجارة مما وقعوا فيه.
والاستصراخ الإغاثة، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به.
قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي استَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَستصرِخُهُ }. طلب للنجدة في فزع، ومحاولة للإنقاذ في رهب، والاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل، وفزع متواصل، وتشبت بالخلاص.
2 - وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة " صرخ " يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى : {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَكِسُونَ }. لتبرز "متشاكسون" وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ وردّ لا يستقران، وقد تعطي معناها الكلمة: متخاصمون، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر، والجدل القائم، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً، تتخللهما الكاف من وسط الحلق، والواو والنون للمد والترنم، والتأثر بالحالة، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة، والعنف والفزع من جهة، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.
3 - وتأمل مادة " كب " في القرآن، وهي تعنى إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى: { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النَّارِ } فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج، والوجه أشرف مواضع الجسد، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.
والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل، قال تعالى: { أَفَمَن يَمِشى مُكِباً عَلَى وَجهِهِ أَهدَى}.
والكبكبة تدهور الشيء في هوة. قال تعالى: { فَكُبكِبوُا فِيهَا هُم وَالغَاوُنَ }.
وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري (ت: 538 هجري) بقوله: "إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى".
وقال العلامة الطيبي (ت: 743 هجري):
"كرر الكب دلالة على الشدة".
ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر، وتفخيم الدلالة، وهذا أمر مطرد في القرآن، وقد يمثله قوله تعالى: {فَغَشِيَهُم مِنَ الْيَمِ مَا غَشِيَهُمْ (78)}.
والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.
دلالة النغم الصارم:
أصوات الصفير في وضوحها، وأصداؤها في أزيزها، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت، وكان ذلك - فيما يبدو لي - نتيجة التصاقها في مخرج الصوت، واصطكاكها في جهاز السمع، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي: الزاي، السين، الصاد، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً، وعن العناية بالأمر حيناً آخر، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت، وأزيزاً مشدداً لدى السمع، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى.
وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير، لرصد أبعادها الصوتية، هي: "رجز" و"رجس" و"حصحص".
1 _ الرجز، في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِن رِجّزٍ أَلِيمٌ}.
وقوله تعالى: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِجّزَ}.
ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها، والهدة عند حدوثها، والنازلة في وقوعها، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضاً، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى:
{فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِنَ السَّمَآءِ (59)}.
وقوله تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ الَّسمَآءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)}. ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتباره أخر العلاج بعد التحذير والإنذار.
2 _ وحينما نقارن لفظ "الرجز" بمثيله معنى ومبنى "رجس" وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت، ولها ذات الإيقاع على الأذن؛ حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة، فقد قيل للصوت الشديد: رجس ورجز، وبعير رجاس شديد الهدير، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد.
قال تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِن رَّبِكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ (71)}.
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}.
كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب، وحالات النفس المتقلبة، نرصد ذلك في كل من قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقال تعالى: {فَاجْتَنِبُواْ الّرِجْسَ مِنَ الأّوْثَنِ}.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
فالصوت في المعاني كلها الصوت نفسه، والصدى ذات الصدى ومن هنا أورد الراغب (ت: 502 هجري): أن الرجس على أربعة أوجه: إما من حيث الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع، وإما من كل ذلك. والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر، وقيل: إن ذلك رجس من جهة العقل، وجعل الله تعالى الكافرين رجساً من حيث أن الشرك بالعقل أقبح الأشياء.
3 _ وحينما نقف عند الصاد في مثل قوله تعالى:
{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُ}. فإننا نستمع إلى الصوت المدوّي، إذ كانت الصاد واضحة الصدور من المخرج الصوتي. فكانت "حصحص" واضحة الظهور بانكشاف الأمر فيما يقهره على الأذعان، وهنا قد يمتلك العجب لدى اختيار هذا اللفظ في أزيزه، ووضوح أمره مع القهر، فلا تردّ دلائلهـ ولا تخبو براهينه.
فإذا شددت الصاد كانت دلالتها الصوتية، وإرادتها المعنوية، أوضح لزماً، وأشد استظهاراً، وأكثر إمعاناً كما في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)}.
فالتحصيل إخراج اللب من القشور، كإخراج الذهب من حجر المعدن، والبر من السنابل، فهو إظهار لما فيها كإظهار اللب من القشر، أو كإظهار الحاصل من الحساب.
والصوت في صيغة الإرعاب، وفي سياق الوعيد، قد تلمس فيه نزع ما في القلوب من أسرار، واستخراج ما فيها من خفايا، دون طواعية من أصحابها؟؟.
وقد يعطي دوي العبارة، وهيكل البيان، صيغة الإنذار، وأنت تصطدم بالوقوف عند السين من حروف الصفير في قوله تعالى: {فَلآ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الجوارِ الكُنَّسِ (16) وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)}.