بقلم: د. عثمان عبدالرحيم القميحي
تظل قضية نقد الصحوة الإسلامية وتصحيح مساراتها الفكرية من مواطن الإشكال الفكري المعاصر لاعتبارات عديدة، من أهمها أن قضية النقد الذاتي للحركة لم تكن قضية منهجية متأصلة في البناء الفكري لبعض الجماعات الإسلامية وموازية للحركة في كل مراحلها ومواكبة لكل فعل وحركة فيها.
صحيح أنه ألف كثيرون عن الصحوة ومآثرها، ولكنها مؤلفات بعضها غلبت عليها الصبغة التأريخية الوصفية التي تسجل المواقف والأحداث ولا تنقد المواقف ولا تقوم الأساليب، والبعض الآخر من الكتابات طغى عليه أسلوب المدح والثناء وتسجيل الشكر والعرفان لرواد الصحوة ومنح شهادات التقدير لرجالها، غير أن الإنصاف يوجب علينا الإقرار بأنه بعد ظهور (جيل ترشيد العمل الإسلامي) تغير هذا الحال وظهرت بوادر نقد موضوعي مجرد من حظوظ النفس وأغراض الهوى على يد كثيرين من أمثال محمد إقبال ومالك بن نبي، ثم تبعهم علماء ودعاة كتبوا في قضايا النقد والتقويم هامسين في آذان المنتسبين إلى أبناء الصحوة والعاملين في مدارسها ومؤسساتها بما وضعوا أيديهم عليه من أمراض وعلل دون تعيير أو تشفٍّ، وكان على رأس هؤلاء:
الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم"، و"من أجل صحوة إسلامية راشدة"، والشيخ محمد الغزالي في رسائله القيمة "هموم داعية مشكلات في طريق الحياة الإسلامية علل وأدوية"، والدكتور محمد السيد نوح –رحمه الله- "آفات على الطريق" والشيخ الدكتور جاسم مهلهل الياسين صاحب سلسلة "رسائل العاملين"، والدكتور صلاح الصاوي في كتابه "مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي"، والدكتور فريد الأنصاري في كتابه "الوساطة والتوحيد في التربية الدعوية".
غير أن غياب مبدأ المراجعة الفقهية والسياسية والمرحلية عن لحمة البناء الفكري لكثير من الجماعات منح ما يشبه الشرعية الفكرية الموهومة لكثير من خصوم الصحوة لانتقادها، إما بمنظور أمني مغرض وإما بأسلوب تآمري يضخم الأورام، ويكشف عن السوءات، ويلقي الضوء على ممارسات الغلوّ، ويلمّعها ويقدمها نماذج أصولية معتمدة للحركة الإسلامية، ويغض الطرف عن محاسن الصحوة ورصيدها الإصلاحي الذي لا ينكره منازع، في حين أنه لم تكن ثمة مراجعات فكرية معتمدة من الصحوة تعبر عن نفسها، وتشخص أمراضها، وتنقد ممارساتها لتقطع الطريق على هؤلاء التجار بالصحوة وتاريخها وتجاربها.
لقد تناول قضية النقد الذاتي للجماعات مدرستان متباينتان:
الأولى: مدرسة تقدّس اجتهادات الصحوة، وكأنها من جنس الشرع المنزل الذي لا تحل منازعته ولا العمل بخلافه، وترى أن النقد الذاتي وتصويب المسيرة هو نوع من الطعن والتشهير والتجريح، وانتقاص الجهود ومصادرة التاريخ، وكشف العورات، وعدم الاعتراف بفضائل السابقين ومنح الخصوم صكاً مجانياً للهجوم على الصحوة وتاريخها، ورأت أيضاً أن من المناسب إغلاق هذا الباب وسدّ ذلك السبيل للحفاظ على هيبة العاملين للإسلام وعدم تشجيع الأتباع على الاعتراض وقلة الانضباط، وأن هذا المنهج سيؤدي حتماً إلى تماسك الصف من التصدع والشقاق، لا سيما في هذا الوقت التي تعالت فيه أصوات الهجوم على الإسلام.
وترى تلك المدرسة أن المطلوب الآن هو توحيد الأمة وجمع شتاتها وغضّ الطرف عن عيوبها وآفاتها، وعن هذه المدرسة يقول د.خالص الجلبي: "مفهوم النقد الذاتي يعتبر غريباً على المسلمين فهم لا لا يرون فيه مصطلحاً إسلامياً، ولا يفهمون من تحته إلاّ التشهير وهذا يجب تعديله...فمفهوم النقد الذاتي بمعنى مراجعة النفس أو النشاط فردياً كان أو جماعياً، ثم محاسبتها هو روح القرآن المكثفة". [ضرورة النقد الذاتي 20].
والمدرسة الثانية: وهي مدرسة اختلط لديها مفهوم النقد الذاتي بحظوظ النفس ومعايير الهوى؛ فعمدت إلى التشهير بالعلماء والدعاة وانتقاص جهودهم والحدة في الردود عليهم بدعوى بيان الحق ونصر السنة وقمع البدعة، وتأثر بذلك شباب حدثاء الأسنان، فصار يضيع جهده، ويفني زهرة شبابه بين رادّ ومردود عليه، فهاجموا رسائل وأدبيات بعض الدعاة ممن خالفوهم في قضايا اجتهادية يسوغ فيها الاختلاف، لا ترقى بحال أن ترصد لها ألفاظ بشعة فيها إسراف وتهجم حتى وصل الحال بهم إلى أن يصفوا علماء السنة كابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم (رحمهم الله) بعلماء الفاتيكان في أمة الإسلام لرجوع الناس إلى فتاويهم واجتماعهم على كلمتهم.
وما أريد أن أخلص إليه هو أن قضية المراجعة وتصويب المسيرة والنقد الذاتي للصحوة قضية لم تأخذ حظها من الترشيد ولانصيبها منه، وكان من الواجب اختطاط منهج لها يعتمد نمطاً وسطياً ومعايير سوية معتدلة بعد أن انقسم الناس إلى فريقين: فريق لا يعرف من النقد سوى كيل السباب والسخائم والتشهير بالمخطئين، و فريق نصب نفسه محامياً عن الصحوة، مدافعاً عن آفاتها يمتعض من النقد العلمي النافع المجرد عن كل حظ للنفس أو مأرب للهوى.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
من المسلم به لدى علماء الاجتماع أن الصحوة الإسلامية المعاصرة بآليتها الغالبة وهي (العمل الجماعاتي) الذي صبغت به حركة البعث الإسلامي بعد سقوط الخلافة، إنما هي "تيار منظم فكرياً وبشرياً يدافع من أجل إقامة الدين في المجتمع من خلال اجتهادات شرعية يتم تطبيقها على الواقع المعيش"، ويلزم عن هذا التعريف أمور من أهمها:مسلمات بين يدي المراجعة والتقويم
• أن ما طرحته الصحوة من مسارات فكرية أو حركية لا يخرج عن كونه اجتهاداً شرعياً وفكرياً لمرحلة ما أو لظروف بعينها، وما يصلح لمرحلة قد لا يصلح لأخرى، وأن هذه الممارسات الحركية إنما هي (رؤى اجتهادية) لا تحمل في طياتها قداسة ولا بين جنباتها عصمة ترتقي بها فوق النقد البناء الذي يقرره واجب النصح الشرعي، ومن هنا تبرز أهمية المراجعة، وأنها ضرورة شرعية يقررها، وحتمية واقعية تقررها المستجدات المعاصرة.
• أن الحركة الإسلامية – بصفتها تجربة بشرية- محكومة بالسنن الربانية، أي يجري عليها ما يجري على سنن الاجتماع البشري تماماً كالحضارات والدول بالمعنى الخلدوني، أي أن لها:
- مرحلة نشأة.
- ثم مرحلة نضج واكتمال.
- ثم مرحلة هرم وانهيار.
ولا يعني ذلك أن الإسلام يتأثر بالضرورة بما يصيبها فقد ينشئ الله موجة تاريخية أخرى تحمله، وتؤصل دعوته كما قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). [محمد: 38]. بمعنى أن صيغة(العمل الجماعاتي) التي غلبت على حركة البعث الإسلامي المعاصر ليست هي الصورة (الوحيدة) لحركة التجديد، وإنما نستطيع أن نقول إن صورة العمل الجماعي كانت أقرب إلى تفكير الرعيل الأول من المجدّدين ليس لأنها الخيار الوحيد، ولكن لأنها كانت بمثابة (الفكرة المتبادرة) إلى الذهن الحركي والقريبة من فكرة الخلافة.
• أن الحركة الإسلامية – بصفتها عملاً جماهيرياً- قد انتسب إليها في بعض مراحلها من لم يكن أهلاً للانتساب إليها، فأساء التصرف من حيث يظن الإحسان، وعلق على تاريخها ما اضطرت إليه من مواقف تحت ضغط الواقع أو بسبب استفزاز الخصوم والمتربصين، الأمر الذي يوجب علينا التفرقة في النقد والتقويم بين ما تبنّته الصحوة من اجتهادات وممارسات بصورة رسمية معتمدة، وبين ما نسب إلى بعض المنتسبين إليها مما لم تعتمده، أو تجعله من جملة بنائها الفكري.
• أن أغلب ما سيجري عليه النقد والتقويم من ممارسات الصحوة يُعدّ من جنس الاختلاف في الآراء والرؤى، وهو ما يدور في دائرة الشورى، والتي تكون في دائرة العفو الذي لم يقطع فيه بنص، وأن أساس الاختلاف ليس في شرعية المبدأ ذاته وإنما الخلاف يقع في آليات الممارسة، وأولويات المراحل، وتقدير المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما، وهي أمور تعتمد الدراية بالواقع، ولا يمكن القطع فيها برأي؛ لأنها مجال لتفاوت الآراء وتباين الاجتهادات.
أهمية النقد الذاتي:
لماذا المراجعة ونقد الذات:
• يقول الشيخ حبنكة الميداني: "النقد التقويمي البنّاء والمصلح هو أحد خصائص الإسلام الكبرى، وهو وظيفة اجتماعية واجبة لكشف جوانب الخطأ؛ فالإنسان بذاته قد لا يكتشف خطأ نفسه أو جماعته وعصبته.. إن الخطأ مع الاعتراف والاستغفار يغتفر وإن كان فادحاً، لكن الأمر الذي لا يغتفر مطلقاً، هو خلق المكابرة والاستكبار عن الاعتراف به والرجوع إلى الحق، والغضب من توجيه النقد ومعاداة الناصحين". [بصائر للمسلم المعاصر عبد الرحمن حبنكة 15-16].
• ولأن "النقد الذاتي حركة ديناميكية حية متطورة نامية وأداة إنضاج للوعي وأداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقى نشيطاً حياً. إنها أداة يقظة للوعي الداخلي وتطهير أخلاقي في مستوى الفرد". [ضرورة النقد الذاتي د.خالص جلبي ص164].
• ولأن عدم تصحيح الاجتهادات -لا سيما تلك التي انقضى واقعها أو تغير كانت ناقصة، وتحتاج لإيضاحات، أو تلك التي أدت إلى مفاسد كثيرة، أو تلك التي أسيء فهمها، ويجب تصحيحها -سيؤدي إلى تكرار هذه المفاسد وشيوعها في كل مكان، وقد يؤدي جعلها نهجاً متبعاً وسلوكاً مستمراً، وحينئذ يصعب العلاج والشفاء من تلك الأدواء، وحينئذ يتسع الفتق على الراتق.
• الإسلاميون اليوم في أمس الحاجة إلى إدراك علل الذات وتشخيص أدواء الصحوة وعلاجها لتنزيل هذا المنهج على الواقع، ومعرفة الآفات التي حالت بيننا وبين مقام السيادة والشهادة على الناس، وجعلتنا ذيلاً لغيرنا.
شرعية المراجعات ونقد الذات:
لعله لا يخفى على منازع أن الأمة شهدت كثيراً من حركات المراجعة الفقهية، وكان من أشهرها مراجعات الشافعي لفقهه القديم، والاستعاضة عنه باجتهاد جديد ناشئ عن تغير الواقع التي ينزل عليه الحكم الشرعي، وفي ذلك يقول النووي: "كل مسألة فيها قولان للشافعي -رحمه الله- قديم وجديد؛ فالجديد هو الصحيح وعليه العمل؛ لأن القديم مرجوع عنه.
"ومن ذلك مراجعات أبي يوسف وزفر مع أبي حنيفة العنوان (أبو يوسف- زفر مع أبي حنيفة) ومنهم من رجح غير مذهبه (أبو بكر بن العربي وهو مالكي يرجح قول أبي حنيفة في القول بوجوب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض قائلاً: "أما أبو حنيفة فجعل الآية قرآنه فأبصر الحق"، وكذلك فعل ابن تيمية، وابن القيم مع مذهبهما الحنبلي)، وكان المتقدمون من علماء الحنفية يرون أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأن الدولة كانت تنفق على المحفظين فلما منعت الدولة العطاء للمحفظين أفتى المتأخرون بجواز أخذ الأجرة خوفاً من انصرافهم إلى أشغال أخرى.
أقول إنه كان يجب على تلك الجماعات التي ترى المراجعة الفكرية لسياستها نوعاً من (البداء) الذي لا يجوز في حقها- أن تستوعب هذا الدرس التاريخي الذي يعلمنا أنه إذا كانت الحركات النقدية تمثل عنصراً هاماً وأساسياً في بنية الاجتهاد الفقهي المتوارث، ولم تجد معارضاً بل وتلقتها الأمة بالقبول كما تلقت تعدّد المدارس الفقهية، فإنه كان يجب أن يتم قبول المراجعات، فإذا كانت الأمة قد تلقت هذه المراجعات بالقبول كما تقبلت المراجعات الفقهية.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)