حيُّ الصليبة في اللاذقية.. قلبٌ نابض.. وتاريخٌ مفعمٌ بالحكايات

**ماهرالفيزو** · 12-13-2010 02:17 PM

حيُّ الصليبة في اللاذقية.. قلبٌ نابض.. وتاريخٌ مفعمٌ بالحكايات

كلُّ زائر إلى اللاذقية لابدَّ له من أن يمرَّ بحي "الصليبة" القديم، الذي يعتبرُ سمة بارزة وملمحاً مميّزاً من ملامح اللاذقية القديمة. حيٌّ مكون من أحجار مرتبة في قلب اللاذقية ونائمة فوق معالم تاريخها، وتكاد تضيع بين أزقة تداخلاته، ولا تستطيع إلا الإصغاء إلى أصوات الباعة وألحان الصدى التي يرسمها الانتظار خلف معالم تلك الأحجار وخفاياها.

أقدم الأحياء
حيُّ الصليبة الشعبي قلبُ اللاذقية النابض ومحورُ التاريخ الذي شدَّ الملايين من الباحثين في خبايا تراثه وقدمه، إلى رسم ماهية تكوينه ورؤية صروح أبنيته التي رسمت ألوانها فوق جباه الناس، الذين يصل تعدادهم إلى 15 ألف نسمة تقريباً، ولايزال العدد محط الاختلاف والتخمين. هذا الحي القديم، الذي يعتبر من أقدم الأحياء الموجودة في المحافظة على الإطلاق، لتنوع آثاره وتباينها ومن خلال بعض المكتشفات التي ظهرت مؤخراً في الحي، سميَّ بهذا الاسم لتصالب شوارعه مع بعضها. ويُعتقد أنَّ أساس هذا الحي يقوم على شوارع من العصر الروماني، هي التي رسمت تصالب شوارعه الحالية.
في جوانب أزقته المخفية خلف الشمس، وعلى عتبات الظلال التي رمتها الجدران العالية، تُريك عيناك أناقة الترتيب التي لا توصف. وعلى الرغم من صغر هذا الحي، إلا أنه يحوي أكثر من عشرة مساجد تباينت في مساحاتها وطريقة بنائها، مما أدَّى إلى بقائها إلى اليوم صامدة لا تهاب مرارة رياح العمر. وفي عمق هذا الحي، انتشرت المقاهي القديمة، لتغطي كامل الحي، ولتستمر مع الزمان، رغم تناوب الجلساء فيها، إلا أنها مازالت باقية بجدرانها ومعداتها. وإلى القريب منها انتشرت المطاعم الشعبية التي مازالت تحافظ على مذاق أطعمتها إلى الآن، ومطعم أبو سويس "الشهير" خير شاهد على البقاء المشهود. وإذا ما اخترقت الحي، سترى في صدر حديقته القديمة الدير الصغير، الذي بقي منه ما يسمى الآن بالكنيسة المعلقة أو "قوس النصر"، والذي اشتقّت اللاذقية شعارها منه لتكون مميزة فيما اختارت.
مكتشفات أثرية
السيد "جمال حيدر" مدير آثار اللاذقية أكدّ أولوية هذا الحي بالتفرد في القدم الواضح في عناصر وجوده، من خلال الأزقة القديمة والقباب التي تعلو المساجد القديمة في الحي. وأشار الأستاذ "حيدر" إلى أنَّ عمليات التنقيب الأخيرة أظهرت تقدماً ملحوظاً من خلال النتائج التي أظهرتها المكتشفات الأخيرة في الحي.
ومما يميّز هذا الحي القديم الصامد، رغم الزمان الغابر، تقاليد أهله في الاحتفالات والأعياد والمناسبات الدينية، حيث لا تستطيع أن تصف ما يحصل في شوارعه في أيام الأعياد ولياليها؛ من انتشار للخيام وألعاب الصغار وباعة الحلوى، وغيرها من العادات التي تمنحك ولو للحظة قبول دعوة ما للغوص في جمال وروعة تلك التقاليد وتلك العادات. وإذا ما مررت في أسواق الحي المتطرفة البعد فيما بينها، لكنت رأيت ترتيباً ما في بنيان السوق من حيث المواد المقدمة والموجودة على طاولات الباعة، ابتداءً من اللحوم والأسماك والخضار والفواكه، ووصولاً إلى سوق الحرفيين وأصحاب المهن اليدوية. ولايغريك إذا ما سمعت عن هذا الحي إلا أن تذكر تلك اللهجة المميزة لسكانه، وتلمس هذا التميز الواضح في أدائها على ألسن أغلب سكان الحي، وهي اللهجة التي يتفرّد بها سكان الحي منذ القدم، ومازالوا إلى الآن يتداولونها في حياتهم العادية. وما سيبقى في ذهن الزائر ما هو إلا تلك الذكرى عن الخبز المشروح والمطعم الأشهر في الساحل السوري وهو مطعم أبو سويس، ومنظر الكنيسة المعلقة بين أحلام أهل الحي، وغير ذلك من المغريات التي وجدتها بين قوسي حي عتيق.
الحمام الجديد
وعلى جانب الحي العتيق نجد "الحمام الجديد"، الذي يعتبر معلماً من معالم اللاذقية القديمة، حيث يقع بين شظايا الوجود، هناك في تجمع نقاط الحضارة الباقية، من خلال حجارته القديمة السمراء. وعلى مقربة من نسيان الحياة، في خضم تجدد الكثير من المحال وأشكالها، بقي حمام السوق القديم مع تعدد الأجيال التي مرت على إدارته، ابتداءً من الأجداد فالآباء ومن ثم الأبناء، ليبقى رغم السنين الثلاثمئة التي مرت على بلاطات أرضياته المزينة بألوان الحياة وأختام من وقعوا بأجسادهم عليها ومن ثم رحلوا ليتركوه وحده باقياً رغم صعوبة صدّ الرياح.
"الحمام الجديد" اسمه جديد ولكنه قديم قِدَم التاريخ، ويعود هذا الاسم إلى أنَّ الأسرة التي استثمرت الحمام منذ أكثر من مئة عام كانت قد استثمرته لصالح "الجامع الجديد" القريب منه إلى اليوم في محلة تدعى بساحة أوغاريت، حيث الحمام يعدّ الآن وقفاً للمسجد القديم نفسه، الذي يدعى بالجامع الجديد حالياً.
خلف جدرانه النائمة لا تريك عيناك سوى البخار المتصاعد منه منذ اليوم الأول لانطلاقة هذا الحمام، وعند لقائك للوهلة الأولى بعتبة الحمام الجديد اسماً والقديم ببنائه يتلقاك عجوز باسمُ الوجه بكلمات الود والترحيب الكثيرة لتصبح في بهو كبير ومرتب. وخبايا الجدران يغطيها سجاد أحمر اللون وبلاطات ارتمت على الأرض فخورة بنفسها وموجودة من قدم المكان وأصالته.
أقدم حمام
الحاج أنس دباغ واحد من مالكي الحمام، قال في لقائه مع "بلدنا": "إنَّ هذا الحمام الجديد هو الحمام الأقدم في المحافظة، ولم يبق من الحمامات القديمة التي كانت تقارب 13 حماماً إلا هذا الحمام القديم بكل ما فيه من قباب ومسطحات بيتونية مسلحة منذ ثلاثة قرون تقريباً، ولا ننسى منظر القبة الكبيرة والمفتوحة إلى العالم الخارجي، من خلال فتحات مدورة للسماح للبخار بالصعود والتغلغل من خلالها".
أما عن مدى الإقبال على هذا النوع من الحمامات في ظلِّ انتشار الحمامات الحديثة والمتطورة تقنياً ومكانياً، فحدثنا الحاج دباغ قائلاً: "إنَّ من اعتاد على الماضي بقي في حياة الماضي في كل تحركاته اليومية، وما ظهر اليوم من تطور وتقانة كفيل باستراحة مميزة، ولكنَّ الأحجار القديمة ولمة الشبان بعد حمام ممتع لكفيل بأن يعطي استراحة أكثر تميّزاً وأكثر متعة، من خلال الراحة النفسية والمناخ الشعبي الذي سيضفيه اللقاء، هذا عدا عما تفضل تناوله من مشروبات ساخنة أوباردة، ولا تنسَ النرجيلة فكثير من الناس يأتون فقط إلى هنا من أجلها بعد الاستحمام وقضاء جلسة سمر لا تنسى".
حي الصليبة من أقدم أحياء مدينة اللاذقية, سمي كذلك لتصالب شوارعه و يعتقد أن أساس هذا الحي يقوم على شوارع من العصر الروماني هي التي رسمت تصالب شوارعه الحالية و لا تزال بعض الآثار الرومانية ظاهرة للعيان في الحي و من أهمها "الأعمدة الرومانية" و "قوس النصر" الملقب عند سكان الصليبة ب"الكنيسة المعلقة" حيث أنه تحت قوس النصر هذا كان يمر شارعين متصالبين مما يعزز سبب تسمية هذه المنطقةبالصليبة و الجدير بالذكر أنه يوجد نسخة مطابقة لقوس النصر في أحد شوارع روما العاصمة الإيطالية.