جلست مرةً أتأمل الفتن التي تدحرجت علينا طوال السنة الماضية ..
وكنت في كل فتنة تمر ألاحظ أنه يبرز في المشهد دوماً فريقان من
الناس .. فريق (مخالف) يتبنى المنكر بضراوة ويدافع عنه ويعطي
الإشارة لبدء الغارة الصحفية .. وفريق آخر لا ينتمي لهؤلاء ولا يتبنى
المنكر لكنه (مخذل) يبدأ في إصدار عبارات التهوين من القضية وأن
الأمر لا يستدعي الإنكار ولا الغيرة ولا الحمية تحت الشعارات المعروفة:
لماذا تضخمون الأمور؟ أين حاجات الناس الفعلية؟ الخ.

من الناس من ينكسر أمام ضغط (المخالف) فالمخالف اليوم
له طريقته الخاصة والمتميزة في إسالة لعاب الباحثين عن المنصب
والمكافآت المالية والفلاشات الصحفية..

ومن الأخيار -والله الحمد- من هو شريف النفس فلا يرضى أن يبيع
دينه بعرض من الدنيا قليل، ولذلك لا يرضخ لإغراءات وجبات
(المخالفين) الدسمة .. لكن ينهار أمام ضغط (المخذلين) ..
لأن كثيراً من المخذلين يظهر في صورة أنه رجل من الصف،
ولذلك يكون أثر (المخذلين) على كثير من الأخيار أكثر من أثر (المخالفين) ..


فالمخذلون يقولون لك غالباً:
نحن لا نختلف مع المحتسبين في أن هذا غير مقبول شرعاً،
والحقيقة أنه لم يكن يعجبنا أنه حصل، لكن الأمر يسير جداً،
فلا داعي لإنكار المنكر، ولا داعي لمقاومة من يتعدى على الحكم الشرعي،
تارةً يقولون هذا الكلام باسم احترام المخالف وأن الشريعة كفلت
الحرية للزندقة إذا لم يتعدَّ على الآخرين، وتارة يجعلون هذا باسم
تركيز الاهتمام بالقضايا الكبرى
(القضايا الكبرى عندهم ليست هي كل القضايا التي عظمها القرآن،
وإنما هي يختصرونها فقط في القضايا المادية للناس).

حسناً.. دعونا مما سبق .. فليس هو المهم ..

وإنما المهم أنني كنت أظن أن هذا التصنيف إلى (مخالف) و (مخذل)
أنه مجرد ملاحظة شخصية اتفقت عرضاً .. وقبل يومين مر بي حديث
شهير جداً خرّجه البخاري في الصحيح توقفت أمامه برهة كأنني لأول
مرةً أقرؤه في حياتي..
توهمت كل شئ إلا أن يكون الرسول نفسه –صلى الله عليه وسلم-
أشار إلى هذا التصنيف (المخالف) و (المخذل) ..
والله لقد غمرني شعور غريب وأنا أرى النبي نفسه يقسم الناس أمام
الدعاة إلى هذين الفريقين اللذين كنت أراهما عياناً أمام ناظري في كل فتنة تمر ..

يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(لا يزال من أمتي أمةٌ قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم،
ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) [البخاري 3641]

ورب محمد أنني جمدت وأنا أقرؤ هذا الحديث كأنني أقرؤه لأول مرة ..
فتأمل كيف نبه النبي –صلى الله عليه وسلم- على (المخالف) و (المخذل)
وعد بذهنك لكل فتنة مررنا بها وسترى مصداق خبر محمد صلى الله عليه وسلم ..

وتأمل كيف نبه النبي–صلى الله عليه وسلم- إلى أن لكلٍ من هذين
الفريقين (ضرر)، فهذا يعني أن هناك من سيتضرر وإلا لما سماه النبي ضرراً ..

وتأمل كيف نبه النبي–صلى الله عليه وسلم- إلى أن المحتسبين
الناجحين هم من يستطيع التخلص من ضرر (المخالف) و (المخذل) سوياً..

ثم تأمل كيف نبه النبي على أن هذه الطائفة (قائمة بأمر الله) وأمر
الله يشمل الدين كله .. فمن أحدث في الأحكام الشرعية محدثات
تحت ضغط الثقافة الغربية فقد خرج عن القيام بأمر الله بقدر ما أحدث ..

لكن أين خطورة التخذيل على المخذِّل نفسه؟
هؤلاء المخذلون –هداهم الله- كم أتمنى أن يأخذوا ساعة تأمل يسيرة
مع أنفسهم ويتدبروا كيف جعل الله تعالى (التخذيل شعبة من النفاق) ..
كما نبه القرآن لذلك في قوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) [الأحزاب 18].

وهاهنا سننتقل إلى السؤال المنطقي اللاحق:
وما خطورة الشعبة الواحدة من شعب النفاق؟
الشعبة الواحدة من شعب النفاق خطورتها أنها بريد النفاق الخالص ..
فالمرء إذا وقع في شعبة نفاق جرته الشعبة إلى شعبة مثلها فتتكاثر
عليه شعب النفاق حتى تخرجه من الإيمان.. فشعب النفاق تتصارع
في القلب مع شعب الإيمان .. والمحصلة النهائية لمن غلب.. ولا يدري المرء بم يختم له ..

بل إن الله جل وعلا قد يعاقب من استرسل في شعبة من شعب
النفاق بأن يسلط عليه مثلها
كما نبه القرآن على ذلك في قوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) [البقرة 10] ،
وقوله تعالى (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف 5].

فتأمل كيف أشارت الآيات إلى أن الإنسان إذا تساهل في شئ من
الضلال فإن الله قد يعاقبه بأن يزيده من جنس ضلاله ..
نسأل الله أن يحفظنا وإخواننا المخذلين .. وأن يهدي المخالفين يارب ..
وأن يزيد الله نصره للمحتسبين القائمين بأمر الله..