لا تَحزني لأجلي يا أمّي فأنا ماضٍ في حياتيَ أقطعُ مشوارَها طولاً وعرضاً إلى أنْ يؤذَنَ لي بالعودةِ إلى أحضانِكِ التي أفتقدُها منذ سنينَ.

أُمّاهُ .. اعذري غُربتي القسْريَّةَ .. فهيَ أكبرُ منّي ومنكِ .. سامحي تقصيري وتأكّدي أنَّكِ عمرٌ يسكنُ في أعماقِ روحيَ .. وهلْ أنا في غيابكِ غيرُ جرحٍ؟ غيرُ نزفٍ؟ غيرُ إحساسٍ مهشَّمٍ؟ .


سيّدةَ قلبيَ الغائبةَ .. صحيحٌ أنّكِ لمْ تكوني معي في كلِّ أيامي .. لكنَّكِ كنتِ حاضرةً دوماً في قلبيَ وفي وجدانيَ .. كلما داعَبَني طيفُك يردُّ لي عمرَ الطّفولةِ ويصبحُ طعمُ الحبِّ أحلى وحجمُ الكونِ أكبرَ .. وحينَ يعلو رنينُ الضِّحكةِ .. أتأمّلُ لثوانٍ .. وأبحثُ خلفَ ضحكتي عنكِ ويخطرُ في بالي وجهُكِ الماطرُ سحراً وشفتاك اللّتانِ تتنهّدانِ عطراً ..


فتتبرّأ ذاتي من ذاتيَ وهيهاتَ أنْ يعودَ لي عقلي وأهدأ.


لازلتُ طفلَكِ يا أمّي .. أرى كفَّكِ فوق جبيني حين يغتالُني تَعَبي .. أشاهدُ دمعاً ينهمرُ فوقَ وسادتي يبلّلها .. يجعلُني نادِماً آسِفاً على مرضي ..


يا غالية : عيناكِ لا تفارقانِ خيالي .. وميضٌ خفيٌّ يؤجِّجُ روحي بنظرتهِما .. يا بدراً ويا عبَقاً ويا وجهاً ملائكيّاً كانَ بلْ أجمل .. إذا ما ذُكرتِ أمامي أفتري علانيّةً على ضعفي وأدّعي قوّةً وهميّة وبأساً باطلاً .. وأعودُ إليَّ باكياً غربتي وأصيحُ "أمّي" .. ولكنْ .. يموتُ الحرفُ على شَفتي وتختنقُ الآهُ في صدري .. صرخةٌ منْ وحشةِ العُمرِ تنطلقُ .. ثم تتعبُ على شفةِ السُّكوتِ.


أصبحتُ يا حبيبتي رجلاً قويَّ العودِ .. أبلغُ منَ العمرِ الآن سنيناً بعددِ ما عشتِ يا سيدةَ النّساءِ .. مُذْ أغمضتِ عينيكِ لآخر مرّةٍ ورحلتِ لم ترَي رسْمي ولم تسْمعي صوتي .. صغيرُك الّذي تركتِ لازالَ يصرخُ باكياً كما في آخرِ مرّةٍ سمعتِ بها صوتَهُ .. كان يصيحُ بدموعه يناديكِ ليرضع .. والآن يصيحُ يناديكِ ولعظمتكِ يخضع .. وتحتَ قدميكِ ليركع .. ردّيني إليكِ فإنَّ العالمَ من دونكِ أسودٌ .. وأنا في زحمةِ الكونِ تغادرُني المراكبُ والسنونُ وكلُّ يأسِ العمرِ يمتلكُ انطلاقي.


رحلتِ وأودعتني حزناً فوقَ احتمالي .. فرجائي في يومِ عيدكِ أن تخرجي قليلاً منْ بينِ أهدابي .. وأن تُغادري أنسجةَ الرُّوحِ كي أحيا يومي .. استقيلي لحظةً واحدةً من وجداني كي أتذكّرَ أنني ما زلتُ حياً بدونكِ .. كتبتُ إليكِ وأعلمُ أن السُّطورَ ستُحرقُ وأن الحروفَ ستُقتَلُ .. فانتظريني أمي ... فلا بدَّ لنا منْ لقاءٍ.