بانوراما العمارة الدفاعية في حلب

السور والأبواب
تعرضت سورية خلال تاريخها الإنساني الطويل إلى غارات وغزوات الشعوب المجاورة أو إلى اقتحام الإمبراطوريات الكبرى لأراضيها
ولما كان بناء التحصينات العسكرية من أبراج وأسوار وأبواب وفصائل عن السور الخارجي والحصون والقلاع
هي آخر فنون الدفاع آنذاك ، فقد انفردت سورية بالعمارة الدفاعية الرائعة عن مثيلاتها في الرافدين ومصر
وكانت حلب أفضل من يمثل طراز وأشكال العمارة العسكرية الإسلامية من خلال السور والربط والفصيل والأبواب وقلعتها الشهيرة
سور حلب يضرب المثل بحصانته
يحدثنا ابن الشحنة نقلاً عن ابن الخطيب أن سور حلب كان مضرب الأمثال بحصانته, حيث يقع خلف السور الأساسي ثلاث فصائل دفاعية من باب الاحتياط العسكري
ويقول ابن شداد أنه كان مبنياً بالحجارة زمن الروم, وبدخول كسرى أنوشروان إلى حلب تهدم جزء من السور, فأعيد ترميمه بالآجُرِ الفارسي , ويقول ابن الخطيب هذا الترميم يقع بين الجنان وباب النصر
وجددت الأسوار في العهد الإسلامي, ونشاهد القسم السفلي للسور بالقرب من باب قنسرين , وهو يتألف من أحجار ذات قطع كبيرة ارتفاع كل واحدة يتجاوز (50 سم ) ثم ترتفع عليها أحجار متوسطة, وفي القسم العلوي من السور رمم عدة مرات آخرها إلى وقت متأخر
بعد دخول نيقفور فوكاس الإمبراطور البيزنطي حلب سنة (351هـ ) وتدميره أجزاء من المدينة ، عاد سـيف الدولة ليرمـم أسـوارها ، وقد تم الكشف في منطقة بحسيتا ـ القسم الشمالي الغربي للمدينة ـ عن جزء للسور الذي يعود إلى فترة سيف الدولة, وقد أكمله نور الدين الزنكي
في قوة التحصين والمتانة الدفاعية الإضافية تم تحصين السور بأبراج متقدمة مزودة بالمشربيات لرمي السوائل وفتحات كوى السهام
كما ينفتح السور إلى خارج المدينة بأبواب ضخمة على الجانبين ببرجين . وتتشكل درفتي الباب من الحديد المُطَرَق وأحياناً معها أبواب سحابة تغلق متدلية من أعلى إلى أسـفل زيادة في الدفاع
وقد رمم وبنى سيف الدولة بعض الأبراج , ويذكر ابن الشُحنة أنه ألحق برجاً كان إلى جانب باب قنسرين من جهة الغرب ويتابع قائلاً : إن ولده سعد الدولة قد جدد فيها أبراجاً وأتقن سورها سنة سبع وستين وثلاثمئة
إن ترميم السور والأبراج والأبواب قد تم بفترات إسلامية من الأموية إلى بني صالح زمن العباسيين , وكذلك سيف الدولة و ولده إلى بني دمرداش ثم العهد الأتابكي الزنكي والأيوبي فالمملوكي . وقد أهمل الترميم في الفترة العثمانية لاكتشاف البارودة وعدم الاعتماد على الحجارة كوسيلة أولى للدفاع
إن بروز فن العمارة العسكرية يتجلى في العهدين الأيوبي والمملوكي ، خاصة زمن مهندس حلب ومعمارها الأول غازي بن صلاح الدين بن أيوب القرن 6 هـ
لقد حملت الدولة الأيوبيـة عبء الدفاع عن الأراضي العربية الإسلامية من غزوات الفرنجة المتمثلـة بالحمـلات الصـليبية ، لذلك نلمس في البناء الأيوبي غلبة الطابع العسكري من حيث ( الضخامة ـ الرهبة ـ المتانة ـ السمو ) في السور والأبواب والخانقاه الواقع بمحلة الفرافرة من بناء ضيفة خاتون, وفي مدرسة الفردوس التي هي أصلاً رباطً ومدرسة ، لقد اتسمت بالشكل العمراني العسكري في مدخلها المتكسر ( الباشورة ) وفي سمو جدرانها
إن قلعـة الشريف هي بالأصل جزءٌ من سور المدينة القبلي وسورها دائر مع سور المدينة , والمتبقي حتى الآن من السور بشكل ظاهر للعيان من باب إنطاكية والبرجين ، وباب قنسرين حيث برز السور مع الأبراج المرممة بالعهد المملوكي وأُسمي برج السلطان مؤيد شيخ المملوكي . والسـور الظاهر على يمين الداخل إلى باب الحديد ـ جهة الغرب ـ وفي جادة الخندق
لقد بلغ عدد أبراج سور حلب الممتد من باب الجنان إلى باب قنسرين عشرون برجاً زمن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد بن المالك الظاهر غازي بن صلاح الدين حيث أخذ الناصر صلاح الدين الأصغر ـ إن جاز لنا القول ـ يهندس بطريقة فنية عسكرية السور والأبراج بجعلها مائلة بانحدار للضمان الدفاعي وجعل فيها أروقة تستر الجنود من حجارة المناجيق أو سهام الغازي
ويقول ابن الشحنة أن السور كان يضم مائة وثمانية وعشرين برجاً فاستعصت المدينة على التتار لكن هولاكو بدخول المدينة سنة ( 658هـ ) دمر المدينة وأسوارها وأبراجها فعاد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون لترميمها دون الأسوار الخربة حيث رممها الأمير سيف الدين كمشبغا الحموي سنة (663هـ ) وبنى ورمم بعض أبوابها
وجاء تيمور لنك ليخرب المدينة ويحرقها فعاد السلطان مؤيد شيخ لزيارة حلب سنة (820هـ ) وأمر بعمارة السور من جديد وأتمه السلطان الأشرف برسباي خاصة سور خندق الروم
لقـد أرّخ السلاطين وكفَال المملكة أعمال الترميم على لوحات حجرية فوق سواكف الأبواب
الأبواب المدثورة
باب العراق
شمال جامع الطواشي ـ موقع ثانوية هنانو ـ كان على أحد أبراجه كتابة تقول : ( أبو علـوان ثمال بن صالح بن دمرادش ) ، هذا إذا قلنا أن ثمال حكم حلب بعد (420هـ ) وقد أُزيل الباب وعُمرت مكانه قاعة ، أُزيلت بحكم مؤيد شيخ ثم بنى الباب وأُزيل
باب دار العدالة
إلى الشرق من باب العراق بناه الظاهر غازي وكان يخرج ويدخل منه الظاهر فقط وهو في محلة التنبغا
الباب الصغير
الذي يخـرج منه من تحت القلعة جانب الخندق إلى دار العدل أنشأه الظاهر غازي
باب السعادة
يقع في خراق الجلوم أنشأه الملك الناصري عام 645هـ
باب السلامة
شمال غرب باب إنطاكية في ظاهره خرّبه الروم البيزنطيين سنة (351هـ ) وتركه سيف الدولة دون ترميم
باب الأربعين
هـو من بناء الملك الظاهر غازي يقع شمال شرق القلعة بين الباب الصغير وباب النصر ، حيث تذكر الروايات أن أربعين فارساً قد خرجوا منه ولم يعودوا ويقال أن أربعين شريفاً قد خرجوا من هذا الباب
ويقال بقربه مسجدا فيه أربعين عابداً ، دُثِرَ بعد أن نقض الأشراف برسباي حجارته وبنى السور البراني
باب بالوج
يعرف الآن بباب الأحمر لا أثر له ، وبالوج هو معمار رومي اشتغل في بناء الباب ويذكر الطباخ أن حجارة هذا الباب قد نقلت إلى الرباط العسكري كما يذكر أنه كان مكتوباً على الباب أنه من عمارة أبو النصر قانصوه الغوري سنة 920هـ
الأبواب والأبراج الظاهرة
باب قنسرين
يقع في الجزء الجنوبي من السور ، من أعظم أبواب حلب و يعتبر حصناً قائماً بحد ذاته ، أُطلقت عليه هذه التسمية لأنه يخرج إلى بلدة قنسرين
العيس حالياً
تعود عمارته إلى أيام سيف الدولة الحمداني والبناء الحالي من العهد المملوكي أي للقرن الثالث عشر ، ولكن إبن الشحنة في كتابه الدر المنتخب يذكر أن سيف الدولة قد جدده
للباب أربعة أبواب ، باب يشرف على المدينة ، بابان في الداخل ، وباب نحو ظاهر المدينة ، وكان للباب الخارجي برج ذو باب متجه نحو التلة السوداء لكنه هدم ، كذلك فإن أجزاء من الباب والبناء مطمورة تحت الطريق .وتوزعت داخل الباب الأفران والدكاكين المختلفة للمؤونة
يتميز باب قنسرين بخاصية الدفاع المحصن تدخل إليه عبر باب بدرفتين يليه فوراً باب سحاب ، نتجه من الباب نحو خراق الجلوم حيث باب السعادة المدثور وتشتهر هذه المنطقة بالدور العربية الرائعة
باب إنطاكية
هو الثاني بالحصانة بعد باب قنسرين يخرج منه إلى جهة إنطاكية ، دخل المسلمون هذا الباب سنة (16هـ ) ، تعرض الباب لهجمات عدة في القرن الرابع الهجري منها هجمة نيقفور فوكاس سنة (351هـ ) وأعاد ترميمه الأمير سيف الدولة
وفي عهد الملك الناصر صلاح الدين الثاني ، هدم الباب من أساسه وأُعيدت عمارته مع برجين بجانبه ، ثم نالته يد الإصلاح في عهد المماليك, هذا ما تدلنا عليه النصوص الكتابية المؤطرة للباب و الأبراج
لقد توضعت على الجدران الخارجية المراسيم الكتابية والرنوك الأربعة تدل على أن ساقي السلطان هو الذي أصلح الباب ، والبرجان المحاذيان للباب يشبهان مداخل قلعة حلب من حيث الحصانة والمُنعة
بناء البرج الثاني يعود إلى أيام الظاهر بيبرس بطل عين جالوت والسلطان مؤيد شيخ ، السوية الأولى تشير إلى رنكي السـبع علامـة الظاهر بيبرس وفوق الرنكين عمارة مؤيد شـيخ ، داخـل باب إنطاكيـة بنى العرب أثناء الفتح الإسلامي أول جامع في الشهباء أسموه الجامع العمري نسبة للخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما سمي المسجد الجامع بجامع الغضائري والشعيبية والتوتة
في داخل الباب و فوق حانوت ثبتت كتلة حديدية إلى سلسال تسمى ( جلَة الشيخ معروف ) أُلفت حولها حكاية الشيخ معروف في مواجهة الصليبيين
يستمر السور شمالاً حتى باب الجنان أو ما يعرف عند العامة ( باب جنين
باب الجنان ـ جنين
وأتت تسميته كونه يؤدي إلى البساتين , جدده السلطان قانصوه الغوري سنة (920هـ ـ 1514م ) ، لم يبق منه الآن سوى برج واحد موقع مسجد صغير حالياً
في كتاب حلب وأسواقها للعلامة خير الدين الأسدي نقلاً من مؤرخ عن عيسى بن سعدان
كلمــــا مرت به ناسمه موهناً جنٌ على باب الجنان
هدم هذه الباب عام (1310م ) زمن الفرنسيين و وسعت الطريق ، بجوار هذا الباب سوقاً لبيع اللحوم والخضار يسمى سوق العتمة
يستمر السور شمالاً ثم يتقعر على بُعد من باب الفرج
باب الفرج
يذكر ابن شداد صاحب الأعلاق الخطيرة أن تسميته ربما للتفريج بفتحه والتفاؤل) ، وتم فتحه من قبل الظاهر غازي بن صلاح الدين ، وباب الفرج هو الثاني في التسمية, فالأول عند القلعة الحلبية قريب من باب العافية بجانب القصر
الكتابة التي كانت على جدار البرج الظاهري تدل على أن السلطان أبو النصر قايتباي قد أعاد ترميمه سنة (873هـ ) وقبله كان يوجد باب العبارة ويسمى أيضاً باب الثعابين الذي رسمه الأمير سيف الدين كمشبغا الحموي سنة 663هـ
الباب اندثر ولم يبق سوى البرج حيث فتحت منه الدكاكين ومدت في منتصفه شرفة لكن (الرنك) ظاهر ومقروء للعيان
نتابع السير مع السور شمالاً حتى نصل إلى زاوية بمقابل مدخل بوابة القصب حيث كان يوجد برج عظيم يسمى برج الثعابين ، ثم نتجه مع السور شرقاً مع جادة الخندق
باب النصر
كان أسمه باب اليهود, ويذكر الشيخ كامل الغزي في نهر الذهب أن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين لم يرق له الاسم فأسماه باب النصر تيمماً بنصر الله جل جلاله
وكانت تسميته ( باب اليهود) لأن الداخل منه يشاهد أماكن اليهود وحوانيتهم , والخارج منه يلحظ مقابرهم
أعاد بناءه الظاهر غازي عام ( 1210 م ) والباب مدخله متكسر لإعاقة عمل آلة الكبش ومنع فرصة المفاجأة والمباغتة
وهو مؤلف من ثلاثة أبواب أزيل الخارجي منها , لفتح جادة الخندق في النصف الأول من القرن العشرين
كانت الأبواب الثلاثة مقببة مع بعضها كما يذكر العلامة الأسدي في أحياء حلب وأسواقها ،ويوجد حجر على الباب الثاني مكتوب عليه هذا قبر أرتميس وكاليكتا المأسوف عليهما وداعاً
وعلى الحجر ثقوب يَعتقد العامة أن من أدخل إصبعه المصاب بعروق الملح فإنها تشفيه لأنها مقدسة ، والباب الثاني قائم حتى الآن, ونتجه إلى الجنوب لنلتقي عند
باب الحديد
هو باب القناة لأن قناة ماء حيلان تدخل منه وهو باب الحديد لأنه حوى على دكاكين الحدادين وهو باب (بانقوسا) لأن (بانقوسا) هي بظاهر باب الحديد . بناه آخر سلاطين المماليك قانصوه الغوري عام (915هـ ) وعليه رنك يشير أن مُشيده صاحب الشرابخانات مشيد بيوت الشراب للسلاطين
وكان يتقدمه من جهة الغرب بظاهره برج أُزيل مع توسيع الجادة ، واختفى الباب الثاني الداخلي وهو حصن منيع ما زال محافظاً على طبيعته, وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بحلب بترميمه ورصفت أرضيته بحجر مدرج منعاً لمرور الآليات وبداخله كان يوجد مركز للحرس العثماني تعلوه الطُره ويفضي إلى محلة البياضة التي تميزت بدورها وحمامها العامة وجامعها الصروي وتكية الرفاعي وجامع الجر كسي ، ينعطف السور جنوباً نحو باب الأحمر المدثور
باب الأحمر
في محلة (أُغلبك) لا أثر له الآن أُزيل بعد نقل حجارته إلى الرباط العسكري ، وتسميته باب (بالوج) نسبة للمعمار الرومي بالوج الذي عمل فيه
يقول المؤرخ راغب طباخ أنه مكتوب على بابه أنه من عمارة أبي النصر قانصوه الغوري سنة (920هـ ) / أعلام النبلاء ج 5 ص 306ـ309 / وفي محلة أُغلبك جامع جميل ذو مئذنة بصلية, الصاعد إليها ينظر إلى روعة وبهاء قصر أبو الهدى الصيادي ـ حالياً دار الإفتاء ـ ويزحف السور من خلف جامع التنبغا ـ جامع أبو الجدايل
و هنا نصل الى باب النيرب
باب النيرب
أمر بعمارته السلطان أبو النصر برسباي ، ونالته يد التجديد سنة 1158 هـ أيام السلطان محمود خان الثاني جدُّ السلطان عبد الحميد الثاني العثماني وهذا الباب يفضي إلى قرية النيرب شرقي حلب بقرب الباب جامع التوبة
حتى الثلاثينات من هذا القرن كان عقد الباب موجوداً يذكر الأسدي في أحياء حلب وأسواقها أن كلمة نيرب سريانية من نارب المنبسط من الأرض وينقل عن الأب مروحي الدمنكي أن الكلمة وردت في لائحة الكرنك في تعداد المدن السورية التي غزاها تحوتمس الثالث الفرعوني ذكرت في رسائل تل العمارنة وفي رقم أشور ، وينحرف السور غرباً حيث باب المقام
باب المقام
يذكر الباحث المرحوم محمد كامل فارس بجولة عاديات موسم 1987 أن الباب يعود إلى الظاهر غازي وقد توفي قبل أن يتم بناؤه فأكمله صلاح الدين الثاني حفيده
وباب المقام الآن أحد الأبواب التي أمر بعمارتها السلطان أبو النصر برسباي وجاءت تسميته كذلك لأنه يفضي إلى المقام المنسوب لسيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وبظاهره المقامات ، وعُرف بباب نفيس ، جدده أبو النصر قايتباي سنة
(870هـ ) ما زال قوس الباب ظاهراً وعليه رنكين وشريط كتابي يشيران إلى السلطان المملوكي قايتباي وبجانب الباب غرباً يقع مسجد ومقام الأربعين ولياً ، وبطرفه الشرقي يقع القسطل ويسير السور غرباً إلى قلعة الشريف ويمر من شرقها ثم شمالها نحو باب قنسرين لتغلق حلب القديمة ضمن سور حصين وأبواب ضخمة صنعت درفتاها من الحديد المُطرَق