ما علة وجود المصائب في الأرض؟ ومتى تتوقف هذه المصائب لمن ابتلي بها؟ وكيف نفسر ظاهرة الشر من حيث المصطلح الديني؟
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


ما هو سياق هذا الدرس؟ :

أيها الأخوة الكرام، قد يتساءل المرء: مصائب تتلو مصائب، كوارث تتلو كوارث، قصف وتدمير، مجاعات وهلاك، أمراض وبيلة، قد يسأل سائل: لماذا هذه المصائب؟ لماذا هذا الضغط؟ لماذا هذه الأمراض والأوجاع؟ .
أيها الأخوة, العبرة: أن تتقن تفسير ما يجري، لأنك إن أتقنت تفسير ما يجري توازنت ، أما إذا فهمت هذا الذي تراه فهماً غير صحيح, فربما انعكس على عقيدتك, سوء ظن بالله عز وجل, قال تعالى:
﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 154]
هذه المصائب التي تطغى على بعض الشعوب أو على معظمها، هناك ضيق اقتصادي، ونقص في المياه، ونقص في الدخول، وأمراض وبيلة تستشري، وترتفع نسبها ارتفاعاً بسلسلة انفجارية، وهناك حروب, ومن يموت جوعاً وبرداً، فقد يسأل سائل: لماذا هكذا؟ ما تفسير ذلك؟ .
أيها الأخوة الكرام، طبعاً هذه التساؤلات, سقتها لكم تمهيداً, لباب في كتاب رياض الصالحين, من كلام سيد المرسلين, عليه أتم الصلاة والتسليم، عقده الإمام النووي رحمه الله تعالى، وسماه باب الخوف، يجب أن تخاف كي لا تخاف، فإما أن تأمن فتخاف، وإما أن تخاف فتأمن، الذي يخاف من الله عز وجل يأمن، والذي يأمن مكر الله, يخيفه الله عز وجل .


لغز حله موجود :



بادئ ذي بدء, اجعل هذه الآية, شعاراً لك في حياتك:

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 147]
الكون مسخر تسخيرين قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾
[سورة الجاثية الآية: 13]
هذا الكون مسخر تسخيرين، مسخر تسخير تعريف، ومسخر تسخير تكريم، لمجرد أن تعرف الله، وأن تشكره على نعمه بعمل صالح, يكون ثمناً لجنة إلى الأبد, تتوقف المعالجة, قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 147]
ما دام الكون قد سُخِّر للإنسان تسخيرين، تسخير تعريف، وتسخير تكريم، ورد فعل التعريف أن تؤمن، ورد فعل التكريم أن تشكر، فإن آمنت وشكرت, لا يمكن أن تصاب بالعجب, وهذا كلام الله عز وجل, قال تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 147]
أحياناً: يزور أخ في المستشفى فيقول: شيء لا يحتمل، جناح الخثرات في الدماغ، أكثر الناس فقدوا الحركة, شلت حركتهم، جناح تشمع الكبد، جناح الفشل الكلوي, جناح أمراض القلب، جناح أمراض الأورام الخبيثة، تأتي إلى مكان آخر شعوب تنزح، أطفال يموتون في الطريق، قصف متتال، موارد ضيقة، ما تفسير ذلك؟
قال تعالى:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 30]

كلما رأيت شيئاً مؤلماً, لا تنس هذه الآية: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾

[سورة النساء الآية: 147]
ضم هذه الحقيقة إلى يقينك :
أيها الأخوة الكرام، سأقول لكم هذه الحقيقة: الشر المطلق، أي أن الشر بالشر يتناقض مع وجود الله، إما أن تؤمن أن لهذا الكون إلهاً، يوجد شر نسبي بالنسبة إليك، الشر النسبي موظف للخير المطلق، إن آمنت أن لهذا الكون إلهاً, يجب أن تنفي عن كون الله عز وجل الشر المطلق، لا تنس هذه الآية:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
[سورة السجدة الآية: 21]
تذكر هذه الآية: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾
[سورة الروم الآية: 41]
الفساد من كسب البشر، ومن فعل الله عز وجل، لا يكون إلا الخير، الخير المطلق، فعل الله كله خير، ولكن ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، كان من الممكن أن يظهر الفساد في البر والبحر, والله عز وجل لا يذيق هؤلاء الذين فسدوا بعض ما عملوا، ممكن أن تنتشر الإباحية في العالم، وينتشر الزنا في العالم، وينتشر الشذوذ في العالم, دون أن يظهر مرض الإيدز، ممكن, هذا المرض لو أنه لم يظهر, لتفاقمت هذه الإباحية إلى درجة عمت القارات كلها .



قرأت عن شرق آسيا, شيء لا يصدق, يكاد يكون الدخل الأول من طريق الدعارة في آسيا, تجارة الرقيق الأبيض أغلى تجارة وأربحها، والفتيات يؤخذون من القرى, ليتدربن على فنون الانحراف, ويبعن في سوق الرقيق الأبيض, قال تعالى:

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾
[سورة الروم الآية: 41]
في بعض بلاد أفريقيا, مرض الإيدز, انتشر بنسبة ثمانين بالمائة من نسبة السكان .
أنا قبل عامين, أعدت خطبة إذاعية عن مرض الإيدز، وحصلت وقتها على أدق إحصاء، وربما كان عدد المصابين في العالم سبعة وثلاثين مليون مصابٍ, وهذا المرض يتطور بنسب .
لدينا نسب عددية اثنان، أربعة، ستة، ثمانية، عشرة .... وسلسلة الأولى اسمها حسابية ، والثانية هندسية .
الآن: السلسلة الثالثة اسمها: سلسلة انفجارية, حسابية, هندسية .



فأنا معلوماتي الدقيقة التي استقيتها من منظمة الصحة العالمية, أنه في عام 2000, توجد سبعة وثلاثون مليون إصابة إيدز في العالم .

كنت في أميركا قبل سنة تقريباً أو قبل ثمانية أشهر, فوجئت أن عدد المصابين بالإيدز قبل ثمانية أشهر, ثمانية وخمسون مليونًا في العالم, دقق:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾
[سورة الروم الآية: 41]
معنى ذلك: كان من الممكن ألا يذيقهم بعض الذي عملوا، ممكن إباحية، فساد، رقيق أبيض .
والآن: هذه المحطات الفضائية, هناك انعكاسات في بلدتنا الطيبة خطيرة جداً, وقد يكون أجهل الناس في بلدتهم أهل البلد، أكثر أخواننا المؤمنين رواد مساجد، من بيوتهم إلى أعمالهم، وهم بعيدون عما يجري من فساد، لكن الفساد الذي ينتشر من خلال هذه المحطات الفضائية المنحرفة, يكاد لا يصدق .


مرة سمعت, أن برنامجاً تلفزيونياً في أميركا, جرى حول الزنا، فجاءت الهواتف إلى هذا البرنامج, لتؤكد أن ثلاثة وثلاثين بالمئة, من حالات الزنا في أميركا زنا محارم، بين الأخ وأخته، والأب وابنته، وربما لا تصدقون أن هذا المرض الوبيل, وصل إلى بلدنا .

يوجد حالات زنا محارم كثيرة جداً، بسبب هذه المحطات التي نستقبلها، والتي جعلت الأرض كلها كانوا يقولون: إنها قرية، ثم قالوا: إنه بيت .
الآن: هذه المحطات, جعلت الأرض كلها غرفة واحدة, فالفساد ينتشر, الخبرات تنتقل.
شيء أنا ذكرته قبل أسبوعين في الخطبة: أن أشد أنواع التأثير السلبي هو على الأطفال، لأن الطفل يتلقى نماذج للسلوك، وأساليب للحياة، كلها تتناقض مع قيمنا, وديننا، وإسلامنا، وتستطيع هذه المحطات, أن تفعل في الصغار، ما لا تستطيع المدرسة, مهما ارتقت، والأسرة مهما ارتقت, أن تفعله في الصغار, الذي يبنيه الأب، والذي تبنيه المدرسة, تهدمه هذه الصحون، فنحن أمام خطر، هذا الفساد,



قال تعالى:

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾
[سورة الروم الآية: 41]


تجد شعوباً تموت من الجوع، شعوب تفتك بها أمراض وبيلة، شعوب تأتيها زلازل، شعوب تأتيها حروب أهلية، شعوب تنزح، فنسأل الله السلام .



على أي تفسير نفسر هذه الوقائع؟ :

ذكرت لكم مرة, أنه من الممكن, إذا كان لنا جيران, عانوا من حرب أهلية, دامت أكثر من سبعة عشر عاماً, أكلت الأخضر واليابس، هذه الحرب الأهلية التي جرت, يمكن أن تفسر تفسيرًا دوليًا، مراكز قوى في العالم, تحركت فحطمت مركزًا ماليًا كبيرًا، وممكن أن تفسر تفسيرًا عربيًا، وممكن أن تفسر تفسيرًا طائفيًا، وممكن أن تفسر تفسيرَ طرفة أصابتها عين، وممكن أن تفسر تفسيرًا قرآنيًا، وهذا هو الصحيح، وهو الحق, وهو التفسير المعتمد، هذا الذي ينبغي أن نؤمن به, قال تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
[سورة النحل الآية: 112]


هل تصدقون أن الذين يدفعون زكاة أموالهم من بين أصحاب الدخل الكبير، من بين أصحاب الأنصبة التي تجب عليهم, لا يزيدون على خمسة بالمئة؟ ولو دُفعت زكاة أموالهم, ما رأيت فقيراً واحداً .




سمعت مرة أرقامًا من الصعب تصديقها، لو أن زكاة الأموال دُفعت في بلد ما, لغطت كل حاجات الفقراء، فالزكاة لا تدفع، الصلوات لا تؤدى، الانحراف يستشري، المعصية يتباهى بها، الاختلاط على قدم وساق، قيام الليل حتى الساعة الخامسة في قنوات المجاري، لا في المساجد، فهذا الفساد المستشري يتبعه ضغط، وحينما يهون أمر الله عز وجل على الناس, يهونون على الله عز وجل, واسألوا الله السلام؛




فأينما ذهبت. قال تعالى:

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
[سورة النحل الآية: 112]
مثلاً: أحياناً يكون الإنسان جالسًا على المائدة، يسمع الأخبار، يقال: سقطت طائرة تقل ثلاثمئة راكب، وقد مات كل ركابها، هذا خبر تستمع إليه، وأنت تأكل، فرق كبير بين أن تستمع إلى هذا الخبر، وأنت في البيت على الأرض مستقر، وأمامك زوجتك وأولادك، وبين أن تكون أحد ركاب هذه الطائرة, مسافة كبيرة جداً .
أحد أخواننا, كان يعمل مضيفاً، قال: دخلت الطائرة في غيمة مكهربة في سماء باريس ، هذه الغيمة المكهربة أتلفت مقدمة الطائرة، وجهاز الرادار، وبللور غرفة القيادة، والطائرة كانت على وشك السقوط، لولا أن الله عز وجل تداركها بالرحمة فنزلت سالمة، وهذه الطائرة سورية, فيصف هذا المضيف, ما رأى بعينه من الركاب، هذا يضرب رأسه، وهذا يصرخ بويله، وهذا ينادي زوجته، وهذا يندب حظه، وهذا ينادي أولاده، قال لي: منظر فظيع، تمنى ربان الطائرة, أن يبلغ الركاب كلمات, بأنهم هاجوا, وماجوا, وخرجوا من أماكنهم، والطائرة في خطر شديد، فأمر مضيف الطائرة, أن يكلف أحد الركاب, أن يبلغ الركاب شيئاً، قال: ما وجدت رجلا يسمعني، الجميع في غيبوبة، قال: ثم عثرت على رجل متماسك وهادئ، فقال: هذا مناسب جداً، فانطلقت إليه, لأكلفه أن يبلغ الركاب رسالة ربان الطائرة، فإذا هو مغمى عليه .
فيا أيها الأخوة، أردت من هذا الدرس, أن يكون تفسيرًا إسلاميًا، تفسيرًا قرآنيًا، تفسيرًا دينيًا، تفسيرًا إلهيًا لما يجري .


هذا كلام الله :

أيها الأخوة، توجد آلام أساسها: مرض، وفقر, وقهر, وحروب أهلية, وزلازل, وفيضانات, وشح مياه، معدل أمطار دمشق حتى الآن تسعة وثلاثون مترًا, وانتهى الشتاء، المعدل في حده الأدنى مئتان واثنا عشر، حتى الآن تسعة وثمانون ميليمترًا, وكأس الماء هذا, نرجو أن نشربه طوال العام, قال تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 147]
هذا كلام خالق الكون، لا يمكن أن يساق العذاب لأناس شكروا وآمنوا، آمنوا بالله وعرفوه، وشكروا بفعلهم نعمه .
فيا أيها الأخوة الكرام، الإله واحد، وسنّته واحدة، كل إنسان شارد مقصر, لا بد من أن يعالجه الله عز وجل، لكن مرة هنا، مرة هنا، مرة في أوربا، مرة في الخليج، مرة في الكويت ، ومرة في لبنان، مرة في آسيا ...
حدثني أخ, قال: عشرْ الحجاج السنة من آسيا, لم يأتوا من شدة الفقر, أصيبوا بأزمات اقتصادية طاحنة، هذه مصيبة .
فأنا لا أريد أن أملأ الدرس بالمآسي, والتشاؤم, والخوف, والقلق، ولكن أريد أن أبين: أن الله عز وجل لا يمكن أن يسوق لعباده عذاباً إلا بسبب، لقول الله عز وجل:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 147]

هذا الشيء عام، لو أردنا على مستوى فردي .

أنت الأخ الكريم, إذا جاءك ما لا ترضاه, فاتهم نفسك, إياك أن تحابي نفسك، إياك أن تقول هذه ترقية، لا, قل: هذا عقاب لشيء فعلته، لذلك هناك قاعدة: المؤمن الكامل إذا ألم به مكروه يتهم نفسه، فإذا ألم بأخيه مكروه يحسن الظن به .
يوجد آية ثانية, قال تعالى: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾
[سورة سبأ الآية: 17]
أيعقل أن نجازي غير الكفور؟ قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾
[سورة السجدة الآية: 18]
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
[سورة القلم الآية: 35-36]


أنا لا أذكر هذا, إلا من باب التوضيح، أحد خطباء دمشق الذين أحترمهم, ذهب إلى بلد في أوروبا، هو أصله من هناك، بلد إسلامي في شرق أوروبا، قال: خطبت في أضخم مسجد في ألمانيا، أقسم لي بالله من فمه إلي, من دون وسيط, قال: والله امتلأ المسجد بالمصلين، وألقيت خطبة مؤثرة جداً، الذي لا يصدق أن معظم المصلين في جيوبهم زجاجات خمر، يشربونها في أثناء سماع الخطبة, من شدة التأثر بهذا الخطيب .

هذا ما كان في ألمانيا، فيجب ألاّ تتهم الله عز وجل، ويجب نتألم نحن، والله نتمنى أن ينتصروا، وأن يعودوا إلى يلدهم، نتمنى لكل بلد إسلامي, أن يكون في أعلى درجة من البحبوحة, والأمن, والاستقرار؛ ولكن:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾
[سورة الروم الآية: 41]
هذا مثال للتوضيح :
أيها الأخوة, دقق في هذه الآية:
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
[سورة الروم الآية: 41]

كان من الممكن, ألاّ يذيقهم بعض الذي عملوا, ممكن، عندئذٍ لا يرجعون .

ذكرت مثل من يومين, قال ابن لأبيه: يا والدي العزيز, لا أحب الدراسة, قال: كما تتمنى, لمجرد أن قال هذا الابن كلمة واحدة، وافقه الأب أن يترك المدرسة, هذا بعد حين, كل أصدقائه بمراتب عالية، وشهادات عالية، وتزوجوا, وذو مركبات, ومكانة، هو فقير مشرد، ليس عنده بيت أو مصلحة، مهان، فنقم على والده .
اسمحوا لي أسوق لكم الحوار, عندما صار الولد عمره خمسة وثلاثين عاما، وليس بيده شيء، لا يملك شيئًا من حطام الدنيا، ومهمل وفي الدرجة الدنيا، وكل أصدقائه بالمدرسة أصبحوا شخصيات لامعة، فقال لأبيه: يا أبت لمَ لمْ تصفعني عندما قلت لك: إنني لا أريد المدرسة؟ لمَ لمْ تضربني؟ لمَ لمْ تقنعني؟ لمَ لمْ تضغط علي؟ أنت سببت شقائي بهذا التساهل.
وتأكدوا: أن كل إنسان ينحرف, يسوق الله عز وجل له شدة، ويعود بها إلى الله، هذه الشدة هي نعمة من نعم الله الباطلة .
هناك طائفتان من النعم؛ طائفة النعم الظاهرة، وطائفة النعم الباطنة، عندما يتدخل ربنا عز وجل, بأن يصحو عبده مما هو فيه، لذلك ربنا عز وجل قال: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
[سورة النحل الآية: 51]


افهم معنى هاتين الآيتين :

الإمام النووي رحمه الله تعالى, من عادته في كتاب رياض الصالحين, أنه يصدّر كتابه أو بابه بآيات قرآنية، ماذا تفهمون من قوله تعالى:
﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
[سورة النحل الآية: 51]
ماذا تفهمون من: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية: 5]
لو أن الله قال: نعبدك ونستعين بك، هل تختلف عن: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية: 5]
تختلف اختلافًا كبيرًا جداً, قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية: 5]
فيها قصر، أي لا نعبد غيرك، هنا لو أن الله عز وجل قال: ارهبوني؛ أي خافوني، ولكم أن تخافوا غيري، أما إذا قال:
﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
[سورة النحل الآية: 51]


لا تخف إلا من الله، لأن الله إذا كان معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك؟ وقد نجد أناسًا في أعلى درجة، أنت سمِّ هذه الدرجة، أحياناً في أعلى درجة مالية، في أعلى درجة صحية، أعلى درجة اجتماعية، فجأة يصبح في أدنى درجة، يؤخذ ماله كله، وقد يُهان إهانة ما بعدها إهانة، ما الذي حصل؟ .

اسمحوا لي بهذه الكلمة: أي إنسان قوي في فترة معينة, بإمكانه أن يفعل ما يريد، هذا الإنسان إن لم يدخل خوف الله في حساباته, فهو أكبر أحمق وغبي, قال تعالى:
﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
[سورة النحل الآية: 51]
يوجد دعاء نبوي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما, أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كان يدعو:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَمن تَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَمن فُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَمن جَمِيعِ سَخَطِكَ))
[أخرجه الحاكم في مستدركه]