- نموذج الإدارة المعاصرة الرقمية التفاعلية الايزي
عبد الرحمن تيشوري

أنتجت تقنيات المعلومات والاتصالات وتطبيقاتها المتطورة والمتجددة خلال السنوات القليلة الماضية واقعاً إدارياً مختلفاً تماماً تبدو أهم مظاهره في سقوط الكثير من المفاهيم والمنظومات الفكرية التي كانت تعتمد عليها الممارسة الإدارية وبدرجات ملحوظة من النجاح في العصر السابق على عصر المعرفة والمعلومات والاتصالات ، وتحققت بذلك نقلة فكرية نوعية مما جعل الممارسة الإدارية المعاصرة تكاد تكون منقطعة الصلة بما كان عليه الفكر والأداء الإداري منذ سنوات قليلة مضت .
وتعتبر النقلة الهائلة في تقنيات المعلومات والاتصالات المستندة على تقنية الحاسب الآلي والتقنية الإلكترونية هي الأساس في إحداث هذا التغيير الذي شمل محاور البناء الإداري من مفاهيم وفلسفة الإدارة والنماذج والأسس الفكرية المستندة إليها ، والهياكل التنظيمية وأنماط العلاقات وآليات العمل الإداري ، وعلاقات المنظمات بالمناخ المحيط وطبيعة التفاعل بينهما ، وكذلك هيكل الموارد البشرية العاملة في الحقول الإدارية وخصائصها وأدوارها الجديدة .
ويتمثل الفكر الإداري المعاصر في مجموعة جديدة من الأفكار والمفاهيم تشكل إطاراً فكرياً متكاملاً مما لا يستقيم معه الأخذ ببعضها دون البعض الآخر . وتلك المنظومة الفكرية ليست ثابتة أو نهائية ، بل هي في حالة مستمرة من التطور والتغيير ، كما أنها ليست جميعاً مؤكدة الفائدة والتميز، فبعض أفكار الإدارة الجديدة تتميز بإيجابيات واضحة بينما يعاني بعضها الآخر من سلبيات ، وهي قد تصلح لبعض المواقع بدرجات أكبر من غيرها حيث لا تتوفر مقومات التطبيق لكافة المنظمات بنفس الدرجة .
وبغض النظر عن الجدوى الذاتية لبعض تلك المفاهيم الإدارية ، إلا أنها في مجملها تشكل إطاراً فكرياً متناسقاً يتلاءم مع أوضاع نظم الأعمال الجديدة القائمة وبدرجة غير مسبوقة على الاستخدام المكثف لتقنيات المعلومات والاتصالات وتطبيقاتهما التي شملت كافة مجالات العمل ، مما لا يستقيم معه إعمال مفاهيم ونماذج إدارية لا تتماشى مع تلك التقنيات .
ومن بين مفاهيم الإدارة الجديدة التي ترسخت بتأثير تقنيات المعلومات والاتصالات :

- استيعاب تقنيات المعلومات .
تحتل تقنية المعلومات موقعاً مهماً في الفكر الإداري المعاصر الذي أدرك قدرتها على التغلغل في كافة مجالات العمل التنظيمي ، فهي بالنسبة للإدارة المعاصرة تمثل مصدر للقوة كما كانت الآلة البخارية سابقاً وتأكيداً لهذا التطور الفكري للإدارة فقد تطورت منهجية " الإدارة بالمعلومات " التي تتمثل فيما يلي:
- التعامل مع المعلومات باعتبارها أحد أهم المدخلات [ أي الموارد] للمنظمة الحديثة ، وهي عنصر رئيس في جميع الأنشطة التي تقوم بها المنظمة ومحرك أساس لعملياتها ، وأحد أبرز المخرجات التي تحقق لها عوائد اقتصادية( واجتماعية وسياسية) هائلة ، لذلك يصبح تصميم وتشغيل نظم المعلومات الإدارية المتكاملة ركيزة إستراتيجية للإدارة تساعدها على مواجهة المناِخ المتقلب ، واستثمار وتفعيل الطاقات المتاحة لتحقيق وتنمية قدرات تنافسية عالية .
- استخدام تدفقات المعلومات أساساً لبناء الهياكل التنظيمية و تنسيق علاقات العمل في المنظمات المعاصرة ، بدلاً عن التخصص الوظيفي كما كان الحال في المنظمات التقليدية .
- استخدام آليات وأدوات معلوماتية واتصالية مبتكرة تزيد ارتباط العاملين واتصالهم ببعض وكذا تحقق تواصلهم مع العملاء والموردين وغيرهم من أصحاب المصلحة .
- تطبيق أساليب في العمليات التنظيمية المختلفة تستثمر إمكانيات تقنيات المعلومات والاتصالات في تقليص أثر اختلاف الوقت وتباعد المسافات ، وتحقيق مزيداً من الترابط بين أجزاء المنظمة ، وبينها وبين عملاءها والمتعاملين معها ، وتنمية وتنشيط ذاكرة المنظمة وقدراتها المعرفية .
- تطوير أنماط جديدة من الهياكل التنظيمية تقوم على تخفيض عدد المستويات التنظيمية وتعتمد على تدفق المعلومات عبر العمليات المختلفة أساساً لتصميم الهيكل التنظيمي المستند إلى المعلومات كما تتسم تلك الأنماط التنظيمية الجديدة بالحركية والانفتاح والاعتماد على الشبكات التي تربط فرق العمل ، وتتمتع بمميزات الآنية في التعرف على المعلومات ومتابعة الأداء وتقييم الإنجازات لحظياً وفي الوقت الحقيقي .
- تطوير أعمال التخطيط والرقابة والتنسيق واتخاذ القرارات باستثمار تدفق المعلومات والترابط بين عناصر المنظمة ، والتحول بدرجات كبيرة إلى نماذج اللامركزية وتفويض السلطة في اتخاذ القرارات .
- تخفيض حجم الجهاز الإداري باختصار كثير من الوظائف التقليدية وتخفيض أعداد العاملين حيث تندمج تلك الوظائف والمعاملات من خلال قواعد المعلومات المشتركة وآليات الاتصال وتبادل المعلومات الحديثة ويمس هذا التقليص بالأساس فئة الإدارة الوسطى في اعتماداً على التواصل المباشر بين المنفذين والقيادات الإشرافية دون واسطة بفضل تقنيات المعلومات والاتصالات والتي تحقق أيضاً توسيع وتنويع وتنشيط قنوات الاتصال ، وابتكار أساليب جديدة في الاتصالات الإدارية تتخلص من قيود الزمان والمكان .
- الالتجاء إلى أساليب البيع والتسويق بالتعامل المباشر مع العملاء والتخلص من الوسطاء وكذا التعامل مع الموردين وإدارة سلسلة التوريد على أساس الترابط المعلوماتي .
- إنشاء علاقات إلكترونية بين أجزاء المنظمة المختصة بالإنتاج و تلك المختصة بالتسويق بما يسمح بتحقيق مستوى المخزون الصفري .
- تطبيق نظم الهندسة الموازية في أنشطة التصميم والإنتاج وإدارة المشروعات .
- استيعاب التقنيات الجديدة والمتجددة
يتبنى الفكر الإداري المعاصر مفهوم " إدارة التقنية" ، حيث تتعدد صور التقنية الجديدة ذات التأثير في عمليات الإنتاج والتوزيع وغيرها من أنشطة المنظمات ، كما تتسارع عمليات التطوير والتجديد التقني ذاتها بفضل الاستثمارات المتزايدة التي تضخها الإدارة المعاصرة في عمليات البحوث والتطوير الأمر الذي يجعل " إدارة التقنية " تأتي في مقدمة اهتمامات الإدارة المعاصرة وتتمثل في شكل منظومة متكاملة لتخطيط وتوظيف وصيانة وتجديد وتطوير التقنية وما يرتبط بها من معلومات وبرمجيات ومتطلبات مادية وقدرات ومهارات بشرية .
ويستوعب الفكر الإداري المعاصر تأثيرات التقنية الجديدة في عمل المنظمات والإدارة ويستثمرها في خلق تيارات مستمرة ومتدفقة من المنتجات الجديدة ، وابتكار خامات ومواد جديدة مصنعة عالية الجودة رخيصة الثمن وفيرة العرض . كذلك يتبنى الفكر الإداري المعاصر الدور المهم للتقنيات الجديدة والمتجددة في ابتكار وتطوير وسائل وآليات ونظم للإنتاج تتسم بالسرعة والمرونة ووفرة الإنتاج وارتفاع الجودة ، مما يتيح فرصاً وإمكانيات غير مسبوقة في تنويع الإنتاج وتطوير خطوط المنتجات وإدخال التنويعات اللانهائية في مواصفات السلع والخدمات التي تتقدم بها للسوق في أوقات قياسية وأسعار منخفضة يتوالى انخفاضها مع الارتفاع المتواصل في كفاءة و إنتاجية نظم الإنتاج الجديدة .
ويستهدف فكر " إدارة التقنية " الاختيار الواعي للتقنيات المناسبة وتشكيل الحزمة التقنية المتناسقة واستخدامها وتوظيفها بكفاءة ومرونة بما يحقق أعلى قيمة مضافة . وتتبنى منظومة الفكر الإداري المعاصر فكرة الاستجابة للطلبات الخاصة للعملاء والتمتع بمزايا الإنتاج الكبير في ذات الوقت ، والمعنى أن الإدارة الجديدة تتعامل بمنطق التقنية الحديثة المتحررة من قيود الزمان والمكان وتباعد المسافات ، وقيود نظم الإنتاج التقليدية .
وبذلك يؤكد الفكر الإداري المعاصر أن " إدارة التقنية " تتعدى مجرد شراء أو نقل التقنية ، بل هي تتضمن عمليات مهمة و مكملة هي" تطبيع التقنية "أي تحقيق التوافق بينها بين باقي عناصر المنظومة الإنتاجية ، " تطوير التقنية" أي التجديد والإضافة والتنمية بالتحسين والرفع ، و" تعميق التقنية " أي استخدام كافة إمكانيات وقدرات التقنية المتاحة إلى الحد الأقصى وتجنب بقاء أجزاء منها معطلة، ثم" تخليق التقنية" أي إنتاج تقنية جديدة تماماً بالابتكار والاختراع .
كذلك يؤكد هذا الفكر الإداري المتجدد الأهمية القصوى للعناية بالمورد البشري وتوفير الفرص لإطلاق طاقاته الفكرية وقدراته الذهنية للابتكار والتطوير والاستخدام الأكفأ للتقنية والمحافظة على توازن تشكيلة المنتجات والعمليات والتقنيات . إن الاختيار الكفء للموارد البشرية في مجالات الإنتاج وتوفير الاستشارات المستمر والتمكين المتناسب مع المسئوليات المسندة إليها والنتائج المستهدفة من وراء استخدامها هي الضمانات الأساسية لتحقيق أهداف " إدارة التقنية" و تطبيق مفاهيمها وأساليبها .
- التحول إلى التسويق والمعاملات الإلكترونية
ينطلق الفكر الإداري المعاصر من حقيقة أساسية أن نشأة المنظمات واستمرارها ونموها وكذلك اضمحلالها وانهيارها وفنائها إنما تتحدد جميعاً بفعل قوى السوق ، فالإدارة الجديدة تبدأ من السوق و تنتهي بالسوق ، ومن ثم يكون الهدف الرئيسي للإدارة أن تؤمن لنفسها مركزاً تنافسياً في السوق من خلال تقديم منتجات أو خدمات للعملاء ترضي رغباتهم و تتفوق على منافسيها . كذلك تمثل معايير الطلب والعرض وقوى المنافسة وظروف السوق المؤشرات الأساسية للتخطيط وبناء برامج العمل في منظمة الأعمال الجديدة .