في الخوف تتشتت الأفكار,وفي الصمت تنفض رمادها لتتأجج ناراً.
إحدى عشرة ساعةً من الصمت كافيةٌ لتعيد إليَّ استيعابي بعد أن فاجأني خوفٌ هذا الصباح. ولم يكتفِ بذلك بل كللني بحمى تمنعني من العودة إلى بيتي بعد أن أنهيت عامي الدراسي بنجاحٍ أدع لأمي دائما ً ما في ثناياه من فرح, لكن روحي تساقطت هشيماً على مسافة بعدي , أجاهدني كي لا يتبعثر ,أريد الوصول إلى صدرها لتعجنني من جديد ... لا مشكلة لديَّ حينها إذا ما راح القبر يهصر جسدي ...

المحطة تحفل بصوتٍ متوحدٍ هو الضجيج ، ضجيجٌ يحاول ردم بقايا جمال هذا الصباح ،
فأحاول بعث بلغٍ من الحياة بابتسامة ذكرى ...
أمي تكره لي أن أنتظر في المحطات , كان ذاك مذ رأتني في أحد الأيام انتظر حافلة المدرسة " خديجة مظهرك في المحطة يوحي لأيِّ عابرٍ بأنك تنتظرينه .. وأنت أرقى من أن تنتظري أيَّ أحدٍ في المحطات التي لا يسكن فيها أحد , لا يخلص لها أحد , كلنا فيها مجرد عابرين ... !"

قالت لي ذلك ولم أكن أعلم أنني ما إن أسافر لأتابع دراستي الجامعية ..ستُنحت ساعاتي بكل ما تكتنفه من العمل انتظاراً ... انتظارا ليدٍ خشنةٍ تنبض بالدفء ، لم ينكشف لي صاحبها إلى الآن.

يعلن الصمت حضوره بعد صافرة الرحلة ... أستطيع أن أتصالح مع عزيف العجلات.

أهرب مني إلى ما يمدني به المذياع من همهماتٍ لا أصغي إليها وتلوذ أناملي بكتابٍ لا أرغب حتى بتقليب صفحاته ،على الأقل في هذا الطريق , كنت قد قررت أن أهبني للصمت .

لم أعرِّفكَ في قائمة السماوات التي سأجتازها لأستطيع أن أحقق أحلامي ... لم أضعك أصلا في قائمة أحلامي، فكيف انسللت إلى ترانيم حياتي تصبغها بإرجون الأحزان ..
يدي ، لم أسمح لأحدٍ أن يصافحها كي تحتفظ بدفئها وبردها لك ... بوحي عتقته دنان روحي ولم أرخه في كؤوس أفئدتهم ..أنت وحدك من بين أهل التراب من يرتشفه بكلِّ صدقه ... ببعض حبك .
كيف يجتاحني الاحتياج إليك وأنت مجردُ رجلٍ شكلهُ خوفي ليحرسني في اغترابي .
رغبة التمازج بكَ تزداد كلما ازددت قدرةً على نثر بذور أحلامي من سلال الخيال إلى ثرى الحقيقة,
كلما ازددت التعمُقَ فيَّ ازددت التصاقاً بك .

صوتُ الصافرة يعيدني إلى أجواء القطار العابقة بالخمول .. وإلى مراقب التذاكر الذي نمت على وجهه طحالب نداءٍ مهترء محاولاً استردادي من شرودي .. "البطاقة يا آنسة" .


أخاديد الحمى تابعت توغرها بجسدها ، ارتجافاتٌ خفيةٌ تسترها ... أنفاسها المتثاقلة ترش النار في مجرى الهواء .. أستجمعت شذرات قوتها وأرخصت رأسها لزجاج النافذة المكدود من حمل الرؤوس التي تعبره .

كانت تلك الأمسية المدلهمّة آخر ما جادت به المدينة علي ، عاصفةٌ ضربت المنطقة .. راحت تتشاجر معي ، غير آبهةٍ بضعفي كأنثى . ألقيت إليها لوائح تجاهلي رغم ألمٍ يضعضعني... رغم الهواجس التي تغلغلَ فيَّ . كانت تعلم أني أخادعها , صفعتني وألقتني للأرض تشربني تركتني لدمعي المتهدل ولصرخةٍ باغتتني على غفلةٍ مني .. أحتاج إلى كفك الخشنة إلى هالةِ دفئها ، أحتاج إليك كي أعود إليَّ .

أزاحت ثقل رأسها تسنده مقعداً يقابلها... أعارت زحمة أفكارها للمطر ... رحمة الله مسحت مآقيها بنعمة النوم , ارتجافاتها الخفية تناسخت وتتابعت في التباين بعد أن تركت إرادتها لقبضة المرض ... مرَّ رجلٌ قربها وأرخى عليها معطفهُ الطويل , نزل عند إحدى المحطات .

عندما فتحت عينيها وجدت نفسها في سرير أمها لا تدري ما أوصلها إلى هناك "كنت غبيةً بابتعادي عنك" هذا ما استطاعت بثَّه لشاجيتها .. أرقدها النوم مجددا أردفت تهذي
"أحتاج أن أبكي قليلاً كي أراك "

بعد أيام .. قالت خديجة لامها : لا أدري لماذا كنت أشعر بالدفء في آخر إغفاءةٍ لي في القطار ...
ابتسمت أمها ناظرةً إلى معطفٍ باردٍ في أحد زوايا البيت ..لا أحد غيرها يعرف سر قدومه...

في مكانٍ ما كان رجلٌ يترنح من صقيعٍ ... يبحث عن بعضه بين صفير القطارات