رسالة إنسان إلى كل إنسان
لـذة العـقـل

أخي الإنسان،

لا يخفى على أحد حال واقعنا الاجتماعي المؤسف الذي نعيشه الآن نحن هنا وكذلك أنتم هناك والآخرون في كل مكان، واقع يجتمع فيه الأخلاقي مع اللاأخلاقي و تتناقض فيه القوانين مع الظواهر، كما تحدث فيه أشياء أخرى غريبة نستشعرها فقط دون أن نراها مثلما نستشعر ألم المرض دون أن نراه. وبالرغم من أننا نجد أنفسنا لا نطيقه فنحن نتقبله ونتأقلم معه بكل الوسائل الممكنة. لقد أصبحنا نعيش حالة اجتماعية زائفة. ومهما وصل الأمر فالواحد منا لا يستطيع أن يعيش بدون الآخر وبدون الاحتكاك معه وإلا فلا حاجة له للمبادئ والمنهجيات، ومن ثمة لا أحد يقدر على العيش داخل المجتمع حرية مطلقة إلا في حالة ما إذا أخذ بالمفهوم الصحيح للحرية الذي هو التخلص من قيود الغريزة لا من قيود المجتمع.
ومما لا شك فيه أن الوضع الحالي لعالمنا هو مرآة تعكس صورة الوضع الحالي لفكرنا الذي أصبح مشوبا بفوضى يعود سببها إلى أفكار فاسدة سائدة اعتمد في بنائها على مناهج أحادية مختلفة كالعلمي المتعصب أو الديني المتطرف أو الفلسفي الجاف بالرغم من وجود ميدان عمل واحد مشترك بين الأصناف الثلاثة هو الذهن، أداة عمل واحدة هي العقل ووجود غاية واحدة يسعى كل صنف إلى تحقيقها بطريقته الخاصة وهي خدمة الإنسان. إن هذه الأفكار الفاسدة السائدة التي قسمت العالم وأساءت له مآلها الاندحار والتلاشي وبناءها سيسقط لا محالة عاجلا أم آجلا ، هذا بالإضافة إلى أن البناء المغشوش تسبق انهياره لحظات يتعرض خلالها هذا الأخير إلى هزات وانكسارات تكون شديدة كلما اشتد الظرف المسبب لها، ولعل أن الهزات التي تعرضت إليها الإنسانية سابقا والتي تتعرض إليها الآن أهون بكثير مما ستتعرض إليه لاحقا إذا استمرت في إتباع نفس الأساليب في عملية استكمال تشييد البيت الفكري.


حول ماهية الفكر
يمكن حصر تعامل الإنسان مع كل الموجودات إضافة إلى التأثير الحاصل بينهما داخل مجموعة واحدة نطلق عليها اسم الفكر، تستلزم وجود مجموعة تعريف كما في الرياضيات يؤول حسبها في حل كل المسائل إلى معادلات فكرية متوازنة، ومثلما يوجد بين المسائل ما هو موضوعي يعتمد على الحقيقة في حله، يوجد كذلك ما هو اعتقادي يعتمد على المسلمات من أجل إقرار توازنه، مما يترتب على ذلك أن يصبح التوازن الذي تعرفه المعادلات الفكرية تختلف درجات استقراره حسب اختلاف مناهج التفكير. فهناك من ينظر إلى فكرة معينة على أنها صحيحة وغير قابلة لتأويلات أخرى مكتفيا لاقتناعه بأسباب ربما قد تكون تافهة بينما ينظر آخر لنفس الفكرة نظرة مغايرة مستخدما أساليب تفوق حدتها المنطقية حدة الأولى، ولهذا السبب تأخذ المعرفة، التي هي مجموع المعادلات الفكرية المتوازنة، ألوانا عديدة فنجد مثلا المعرفة العامية، المعرفة الدينية، المعرفة العلمية، المعرفة الفلسفية...، و من الواجب علينا أن نميز بين أنواعها ولا نضع ثقتنا إلا في أفضلها، إذ أن أرقى أنواع المعرفة هو ما يأتي عن طريق الاستدلال السريع والإدراك المباشر كما ندرك أن الكل أكبر من الجزء. وهذه الطريقة البديهية يعرفها الكثير عن إقليدس الذي يعترف بحسرة أن الأشياء التي تمكن من معرفتها عن طريق هذا النوع من المعرفة قليلة جدا.
وإذا كانت الفكرة مهما بلغ صوابها لا بد وأن يتم التحقق منها ومن الأسباب التي أدت إلى تصديقها فإن بعض الأفكار توجد ضمن مجموعة الفكر تتطلب منا أن نثور عليها، فكم من نظرية آمن الناس بها ووضعوها فوق كل جدل ثم تلاشت بعد ذلك وأصبحت لا شيء. ولو وجد ثمة اتفاق بين فكرة وموضوع فلا يعني ذلك أنه حقيقة إلا في حالة ما إذا تخلص الموضوع من أهواء المفكر وميوله لأن في صميم كل فرد تصور ذاتي عميق له سلطة بالغة في تحديد موقفه من مجرى الأحداث، وقيمة الموقف أو الرأي تتعلق بكفاءة صاحبه وحريته في التفكير وللتربية والتعليم في ذلك أثر كبير.
وكيفما كان الحال، فالتعامل مع الموجودات هو تفاعل معها تخضع فيه الأفكار إلى التحلل مثلما تتحلل الجزيئات في التفاعل الكيميائي من صيغة إلى أخرى، هذا وأن حدوث التفاعل لا يتم إلا بوجود أجساما متفاعلة وحافزا يساعد على التفاعل، ففي غياب الأوكسجين مثلا يتوقف الاحتراق كما تتوقف عدة تفاعلات كيمائية لهذا يصبح من الضروري توفير الحقيقة التي من شأنها أن تلعب دور الحافز في التفاعل الفكري لأنها ستساعد على تفكيك الأفكار من أجل إعادة صياغتها. وتفيد التجارب أن كمية هذا الحافز كلما كانت كبيرة كلما كان ناتج التفاعل الفكري جيد ومفيد. ولما كان لكل تفاعل أجساما جديدة تنتج عنه فإن ناتج التفاعل الفكري هو فكرنا العملي الذي هو سلوكنا، أعمالنا وإنجازاتنا، ولهذا السبب ينبغي علينا أن نفكر في كيفية تخليص الفكر من الفوضى وفي تقوية أسس بناء البيت الفكري الذي تسكنه عقولنا جميعا؛ الأمر الذي يتطلب البحث عن الهفوات والأخطاء التي ارتكبت أثناء عملية بناء الفكر العملي القائم أساسا على تصميم الفكر النظري الذي يحتاج هو الآخر إلى الإحاطة بكل جوانبه لعل الهفوات تكون قائمة فيه ثم ملاحظة الأجزاء المهملة التي تخلى الإنسان عنها ولم يتناولها بالتهذيب كما يتطلب كذلك فحص عيوب المعرفة وحاجاتها وإمكانياتها ووسائلها والإشارة إلى المشاكل الجديدة التي تنتظر إلقاء الضوء عليها، ولعل ما يتطلبه تطوير المعرفة الإنسانية هو تطهير العقل وتنقيته من بعض التصورات والمفاهيم القديمة وذلك بتصحيح الأخطاء المرسخة فيه والأوهام المتجلية في الصور التي ترتسم في الأذهان عن حقيقة الأشياء. هذه هي المهمة التي على العقل أن ينشغل بها متحديا كل الخلافات القائمة بين التيارات الفكرية لأنه هو المسؤول الوحيد عن حل مشاكل الإنسان، فهو مؤسس الفكر وصانع الرموز وبفضله اتخذت الأشياء صورا لها عند الإنسان، ومن أجل تجنب أي سوء قد ينتج عن ذلك عليه أن يجد حلا للأزمة التي يعيشها البيت الفكري الذي يعتبر ملجأ عقولنا جميعا كما سبق الذكر.
وأول خطوة في هذه العملية استحضار خصائص كل تفكير على حدا قبل أي محاولة توفيقية يكون من شأنها حماية فكر الإنسانية من شر الاصطدام الذي قد يحدث بين أصناف التفكير بسبب التعصب والتطرف واللامبالاة.

أ- الدين
هو مؤسس الأسرة الفكرية وأب العلوم التي تعد الفلسفة أمها، ويعتبر كذلك قوة يرجع إليها الفضل في ظهور المعرفة البشرية وتقدمها باعتباره أول ما حرك مخيلة الإنسان ووجهها لصالح خدمة صاحبها، وهو لا يدعو إلى شيء يتنافى مع مصلحة الإنسان لأنه يهدف إلى تحقيق الخير للإنسانية، لذلك تطلع منذ البداية إلى أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض.
ولقد لعب دورا هاما في تحرير الإنسان من جزء هام من الخرافات والأساطير وفي حمله على العمل من أجل التحرر من السيطرة والاستعباد ومن أجل تحقيق إنسانيته كما أن الطقوس التي جاء بها ودعا إلى ممارستها كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها كلها أساليب بقدر ما تقرب الإنسان من الله بقدر ما تدربه وتمرنه على كثير من الآداب والممارسات التي هو بحاجة إليها في حياته اليومية لكي يكون ناجحا. ولم يكن الدين في يوم من الأيام عائقا أمام تقدم الإنسانية وإنما تناقض مصالح الإنسان هو السبب في ذلك لأنه عندما ينصرف الدين عن مهمته عند رجال الدين سيصبح وسيلة للاستغلال لا تخدم سوى مصلحة الأقلية، وكان قد ترتب على مثل هذا التوظيف السيئ للدين أن أطلق عليه أفيون الشعوب.
إن الدين سلاح ذو حدين، يؤدي حسن استعماله إلى التحرر والتقدم كما يؤدي سوء استعماله إلى التدمير والتقيد، وهو لا يقتصر على مصير النفس البشرية في العالم الآخر فقط كما أنه لا يعتمد على اعتقادات في غاية البساطة أو بدون معنى، لأنه بالنظر إلى البداية نجد شيئا لا يمكن معرفته على الإطلاق وهو منطلق يستحيل استبعاده كما يستحيل بلوغه وهذا ما يجمع عليه كل من رجال الدين والفلاسفة. وأهمية الدين بالنسبة إلى العقل لبلوغه الغاية المنشودة كأهمية علامات المرور على الطريق بالنسبة إلى السائق لوصوله إلى المحطة المقصودة.
ب- الفلسفة
تعتبر الفلسفة ثاني تيار فكري عرفه الإنسان. ويعد دورها رئيسيا في تطور المعرفة الإنسانية. وقصة ظهورها إلى جانب الدين الذي نشأت منه تشبه إلى حد كبير قصة ظهور أمنا حواء إلى جانب أبونا آدم الذي خلقت منه، وإذا كان تعايش و تكامل آدم وحواء نتج عنه ظهور كل المجتمعات فإن تكامل الفلسفة والدين تولدت عنه كل العلوم.
إن التعايش الذي تحقق بين الدين والفلسفة منذ زمن بعيد والذي نتج عنه ميلاد العلوم، لم يدم طويلا بسبب خلاف نشأ بينهما أدى إلى الافتراق، فاستقلت الفلسفة عنه وتحملت أعباء صغارها ثم صارت ترفع من شأن العقل وتبحث عن الحقيقة التي تدفع بالإنسان دوما إلى الحركة والنشاط وتنهي أمره بالحيرة والتساؤل. ويعمل العقل في الفلسفة على اكتشاف الوحدة الكامنة في التعارض حتى لو استلزمه الأمر استخدام طرق غير مألوفة، فهو في ملاحظته للوقائع يرى أن الطبيعة تتألف من ظواهر مرتبطة فيما بينها وليس من أشياء منعزلة ومنفردة. وكما يحس العقل في الفلسفة ويؤمن بوجود الطبيعة فهو يشعر كذلك بوجود ما وراء الطبيعة ويسلم به. ورغم التعارض الذي يبدو جليا بين التصور الأول والثاني فإن العقل بإمكانه في الفلسفة تصور صورة واضحة لكل ما باستطاعة الإنسان معرفته في الطبيعة أو فيما وراءها.
والعقل هنا لا يتقيد بالمحسوسات المباشرة أثناء انشغاله بالبحث عن نظام الظواهر، لكن بإمكانه اعتمادا على المعطيات الحسية الواردة إليه أن يتوصل إلى معارف تمتد فيما وراء المحسوس، ويتمثل نشاطه الخاص هذا في عملية تكوين المفاهيم الكلية بناءا على المفاهيم الجزئية بعد تجريدها والتأمل فيها. إن تعقب علة ظاهرة واحدة يجر إلى البحث في الكون كله لهذا عندما تصادفه ظاهرة معينة ويتعذر عليه الجواب عن سببها يعيد طرح السؤال عن مدى ارتباطها بالظواهر الأخرى، لأنه يدرك مدى ارتباط ظواهر الكون بعضها ببعض وكذلك مدى تماسك الفروع المختلفة للمعرفة البشرية.
إن الخير الأعظم الذي تود الفلسفة تحقيقه للإنسان هو معرفة الاتحاد الذي يربط العقل بالطبيعة كلها دون أن ننسى السرور الذي تدخله حتى إلى النفس الحزينة فعن طريق الفلسفة لا يتعلم الإنسان دروس التملك التي لا حد لها وإنما يتوجه إلى البحث عن حاجيات العقل أولا أما الحاجيات الأخرى إما أن تتوفر له أو لا حاجة له بها. كما أن السعادة لا تعبر عنده عن اطمئنانه على متطلباته الغريزية. صحيح أن مفهوم السعادة مرتبط بشعور الإنسان باللذة لكن للملذات الغريزية ألوانا عديدة و مختلفة يصعب تحقيقها جملة واحدة، وحتى إن تحققت فهي لحظية ولا تحقق السعادة الدائمة. و عليه، فاللذة الغريزية التي يتمتع بها الحيوان أيضا وحدها ليست كافية لجعل الإنسان مطمئنا وسعيدا.
إن ما يبطل مفعول السعادة هو القلق أو الخوف الذي ينتج عن عدم معرفة الأسباب التي تحرك الأشياء التي تخيفنا، إننا لا نخاف من عدو يكون بوسعنا التغلب عليه، لكن وجودنا في خضم الأسباب الخارجية التي تتقاذفنا من كل ناحية يجعلنا نضطرب ونتساءل دون أن نعرف شيئا عن مصيرنا. فهذا القلق إذا هو اعتراف منا بخوفنا بسبب نقصنا، ولهذا كلما ازداد العقل معرفة ازداد فهما لنظام الطبيعة وكلما ازداد فهما لنظام الطبيعة ازداد مقدرة على تحرير نفسه من الأوهام التي تخيفه، لأن فهم الشيء وإدراك معناه ومعرفة كنهه وغايته كل ذلك يبعث الاطمئنان في النفس ويبعد الشعور بالخوف منه. وحينما يترعرع العقل في أحضان الفكر ويتغذى بحليب المعرفة تزول قيود الجهل قيدا بعد قيد وتنقص شدة الخوف درجة بعد درجة حتى إن صار ناضجا مطلعا على الحقائق وجد صاحبه نفسه سيدا حرا لا يخاف الأشياء والظواهر كيفما كانت بل يدركها ويقدر أسباب حدوثها.
هذه هي الحرية الحقيقية التي على الإنسان أن يسعى وراءها لكي يكون سعيدا ما دام يتسلح بأداة تدعى عقلا تمكنه من التخلص من كل المآزق وتجعله يشعر بالسعادة الدائمة التي تحققها لذة العقل.
ومن شأن هذا العقل أن يسخر من صاحبه إن أساء استخدامه وتعصب للأفكار الفاسدة، كما يستحيل عليه أن يغفر له الحالة التي يوصله إليها عقلية دنيئة بسبب أهوائه العمياء، ففي الوقت الذي تخمد فيه جذوته يسلم العقل أمر صاحبه لقاضي التحقيق المسمى الضمير لينظر في قضيته. والويل من عذاب الضمير.
وإذا كان العقل يعاقب صاحبه إن أساء التصرف به، فإنه يمنحه السيادة ويحقق له المجد إن أحسن توظيفه ورفع من قدره. ويكفي الإنسان أن يكون موضوعيا في كل ما يفكر به ليرضى عنه عقله ويهديه أحسن السبل.
ت- العلم
ينحصر موضوع العلم في الكشف عن القوانين معتمدا على الوصف والملاحظة كما يعتمد أيضا على الافتراضات التي هي من وحي الواقع الذي يشاهده العالم والتي لا تكون ذات قيمة إلا إذا أكدتها التجربة وحققتها الملاحظة والاختبار. ولكن عن طريق العلم وحده لا ندري شيئا عن نظام الوقائع لأن العالم لا يهتم بالظواهر الكونية والإنسانية في منظورها الشمولي كما يفعل الفيلسوف وإنما يتخذ من مجموعة محددة من الظواهر المتشابهة والمترابطة ميدانا لأبحاثه فيقوم بدراستها وتتبع أحداثها وتطورها، وكل همه هو الكشف عن العلاقات القائمة بينها دون الاهتمام بالكشف عن ماهيتها أو غايتها، وبعد استكمال تجاربه يصوغ النتائج المحصل عليها في صيغة قانون لا يتعدى نطاق المجموعة المحددة من الظواهر التي تشكل ميدانه في حين أن التعميم عند الفيلسوف غير ذلك تماما لأنه يشمل مختلف الظواهر العامة ويعبر عنها في نسق عقلي شمولي.
إن نظرة العلم وحدها ليست كفيلة بتحقيق تقدم المعرفة الإنسانية. ومن الطبيعي ألا ننتظر منه تعليلا أو إيضاحا لعلة الأشياء ما دام يقتصر على الملاحظة والوصف، لذلك تشده روابط متينة بالفلسفة بالرغم من عدم اعترافه بفضلها عليه، إنها كانت ولا تزال تستخرج المادة الخام وتقوم بتقديمها للعلم ليشاهدها ويصفها ويحللها ويستنبط منها وقائع متعددة ثم يكشف عن قوانينها، وبما أنه لا يهتم بالكشف عن الماهية والغاية فإن الفلسفة تستخدم نتائجه وتقوم بتنسيقها بالنظر إلى تحسين الحياة الإنسانية.
ويشهد التاريخ بأن العلوم المختلفة سواء كانت طبيعية أو إنسانية إنما نشأت وترعرعت في أحضان أمها الفلسفة وبقيت مرتبطة بها وبغايتها إلى أن وصلت إلى المرحلة التي تشبه إلى حد كبير مرحلة إبراز الذات عند الإنسان (المراهقة) وتتطلب مرحلة كهذه العناية المركزة والمراقبة المستمرة والتوجيه الصحيح من طرف الوالدين معا حتى يتمكن الأولاد من اجتيازها بنجاح، وبعد هذه المرحلة مباشرة يصبح الإنسان ناضجا قادرا على بناء نفسه اعتمادا على نفسه حتى بعيدا عن والديه أي بعد استقلاله عنهما، وبالنظر إلى استقلال العلوم عن بيت أسرتها فهو لم يكن سليما لأنه تم قبل اكتمال مقوماته بسبب الخلاف الذي حصل وقتئذ بين الفلسفة أمها والدين أبوها والذي دفع بكل واحد منهما إلى العيش بعيدا عن الآخر.
وحسب تاريخ العلوم كان علم الفلك قد استقل على إثر اكتشافات العالم نيقولا كوبرنيك الذي برهن في كتابه " المطول في ثورات العوالم السماوية " على حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس، مما أحدث آنذاك ثورة في ميدان العلم تعرف بالثورة الكوبرنيكية التي قلبت المفهوم القديم لتصور الكون رأسا على عقب الذي كان يقوم على أساس أن الأرض هي مركز الكون كما أنه بين حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس. ويشهد تاريخ العلوم أيضا أن الفيزياء قد استقلت هي الأخرى عن الفلسفة ابتداء من القرن السابع عشر على إثر أبحاث كثير من العلماء منهم غالي ليه ونيوتن وديكارت وغيرهم. وفي القرن الثامن عشر قامت الكيمياء الحديثة بفضل مجهود عدد من العلماء وعلى رأسهم العالم الفرنسي لافوا زييه. وفي نفس الحقبة الزمنية نشأت علوم الأحياء على يد بيشا... وهكذا استمر استقلال العلوم وتفرعها إلى أن سيطرت على العلماء نزعة التخصص مما أدى إلى تفرع مهول للعلوم فنتج عن ذلك اختلاف بين هذه الفروع العلمية حول النظر إلى الظواهر المتشابكة والمتشعبة ثم بقي المشكل قائما بعد ذلك.