البيت الفكري:
من خلال ما استعرضناه لخصائص التيارات الفكرية الثلاثة يتبين لنا أن التفكير العلمي يؤمن بفكرة رئيسية يقوم عليها كيانه وهي مبدأ الحتمية كما أنه يتقيد بالتجربة ويلتزم بما هو كائن دون النظر إلى ما ينبغي أن يكون، وهو يختلف بذلك عن التفكير الفلسفي الذي يتقيد بالمنطق وينظر إلى ما ينبغي أن يكون بناءا على ما هو كائن. وهما معا يختلفان عن التفكير الديني الصادر أساسا عن الاعتقاد. لكن، ليس بمقدور لا الدين ولا الفلسفة ولا العلم أن يسحب أحدهم الستار لوحده عن الحقيقة المراد معرفتها من قبل إنسان الألفية الثالثة الذي يفضل أن يرى الأشياء في صورتها الكاملة بدقة متناهية.
وحتى لا ننسى الإجابة على السؤال الذي طرحته من قبل والذي يتعلق بكيفية تخليص الفكر من الفوضى سنعود إلى العقل بصفته المسؤول الوحيد عن حل مشاكل الإنسان والذي بإمكانه أن يجد وسيلة يخلص بها البيت الفكري من الفوضى التي تعمه. وما من طريق أمامه عدا أن يجعل الفلسفة تدرك خطورة ما آل إليه الوضع من جراء العداوة والكره اللذان تشعر بهما اتجاه أب أبنائها الدين على الرغم من طول مدة الانفصال بينهما، وبعد أن تدرك الفلسفة خطورة الوضع سيلزمها العقل على العودة إلى البيت الذي أسسه وشيده الدين وتم فيه إنجاب العلوم. لكن وقبل عودتها على الفلسفة أولا تصحيح الصورة التي رسمتها في مخيلة أبنائها العلوم عن أبيهم الدين ثم إقناعهم بأي شكل حتى لو بإغرائهم بمادة خام جديدة تكون مستخرجة من تربته من أجل انضمامهم إليها ثانية ومرافقتهم لها خلال عودتها إلى بيت الأسرة الفكرية.
إن الأسرة الفكرية أو النظمة الثلاثية الفكرية لا تعد مركبة بهذا الاعتبار من أجزاء تختلف طبيعة بعضها عن بعض، بل هي وحدة تهدف في نشاطها إلى تحقيق التواصل الكلي. فوحدها هذه النظمة تملك القدرة على إرشاد الإنسان إلى المعرفة الصحيحة وإلى شعوره بأنه جزء مهم من الكل، لذلك هي ملزمة بمقاومتها للتجزئة للحفاظ على نفسها خاصة أن اعتماد الإنسان عليها في طلبه للمعرفة سيجعله يستطعم ذوقها ويشعر بلذة العقل الممتعة.
 المعرفة الصحيحة سر الحياة السعيدة 
تحت هذا الشعار، قامت دراستي وبحثي في المعرفة الإنسانية التي من خلالها وجدت ثغرات كبيرة ومتعددة يتفرق مجموعها على أرضية الفكر تحول بين الحقيقة الكلية وكل من حاول السعي وراءها، ومن أجل هذا الغرض فكرت في أن أجمع في كتاب "لذة العقل" النتائج والمعلومات التي توصلت إليها بعد سنين من البحث والدراسة الحرة بعيدا عن جدران الجامعة، موفقا في ذلك بكل الوسائل المتاحة بين حياتي الفكرية هذه وحياتي العملية والأسرية، ثم أعرضه عليك أخي الإنسان.
لقد حاولت في كتابي هذا أن أطلعك على مسألة في غاية الأهمية وعلى مفهوم جديد يمكنك من استيعاب معنى النظام الذي لا غنى عنه بالنسبة إليك من أجل فهم عميق للتواصل الذي يربطك بالآخر، بالطبيعة وبالله في آن واحد، وإنني لأرجو أن تجد فيه ما يجعلك تستطعم ذوق هذا النظام.

مسألة البدايات

تعتمد كل المعارف في بناء أنساقها على مسألة البدايات التي أرى فيها أن المناقشات حول نشأة الكون وقصة تمدده وسيناريو "البيغ بانغ" كل ذلك يوحي بعدم التحقق منه بشكل قطعي لا علميا ولا فلسفيا، فلا يعقل أن نرى العلماء يقدمون لنا سيناريوهات وكأنها لحظات تاريخية، تمدد الكون وكأنه قصة.... لكن من الواجب علينا ابستملوجيا أن نفرق بين سيناريو وقصة وبين فرضية ونظرية كما أظن أن طالبوا العلم يحتاجون إلى نموذج كي يفهموا الحدث الذي تحط عليه نظرية ما.
إن فكرة الانفجار العظيم هذه يغلب عليها الطابع الأسطوري أكثر مما يغلب عليها الطابع العقلاني، والحديث عن أصل الأشياء لا يجوز أن يبدأ من شيء مركب كالغاز أو الغبار الكوني أو...، ففي الرياضيات مثلا لا يجوز للعدد 09 أن يكون أصلا للحساب مع العلم أن أعدادا أصغر منه لها وجود، مما يستلزم أن يبدأ الترتيب التسلسلي للتطور الذي عرفته المادة من شيء لا يقبل التقسيم. ومن ثمة لا يصح اعتبار الموجود المتغير موجودا جوهريا بل يجب البحث عن الشيء الذي يوجد في كل الأشياء الذي يحتفظ بخصائصه رغم اختلاف وتنوع ظروف الأنواع التي تتكون منه حتى يؤهله ذلك بأن يعتبر قضية البداية.


إنه تصور خاطئ وضعه العلماء يصعب على العقل بالمنطق أن يستوعب مفاهيمه، ولا غرابة في ذلك ما دامت الحواس هي الوسيلة المستخدمة. فالإنسان منذ القدم بدأ بحواسه لإدراك ما حوله، لكن سرعان ما ثبت له أن الحواس لا تستطيع أن تعطيه أي صورة حقيقية عن العالم خصوصا لما أدرك أن المعلومات التي جمعها عنه بواسطتها، وظن لفترة من الزمن أنها حقيقية، لم تكن سوى أوهام ورغم ذلك استمر البحث وركز العقل على التجريد لاستخدامه كإمكانية أو وسيلة في بناء المعرفة الإنسانية تحت شعار: من الخطأ نتعلم الصواب.


معرفة أصل الكون
يعنيك كثيرا أخي الإنسان أن تقرأ أو تسمع شيئا عن الكون، أصله وتركيبه...فإليك كيف أراه أنا من وجهة نظري.
يعتبر الكون بالنسبة للعقل البشري كل متماسك من الأجزاء، ليس أزلي وإنما محدث يتواجد ضمن مجال مفتوح لا حد له ولا نهاية، ميزته الوحيدة الممكن معرفتها هي الأبدية التي يفتقر لها الكون وما فيه، وهذا المجال المفتوح هو الوجود، نقيض العدم، ممتد في كل الفضاء اللانهائي وبدونه لا يمكن وجود أي موجود وأن كل الموجودات التي هي فيه إنما هي منه وإليه.
إن ذات الوجود الأزلي(الله) غير قابلة للوصف لأن الوصف لا يتم إلا بإسقاط أو تشبيه الشيء المراد وصفه بشيء آخر معروف ومألوف لدى الشخص السائل، وحسب ما هو معروف أن الأشياء التي لم يسبق لنا رؤيتها أو لمسها يصعب علينا تخيلها أو بالأحرى التحدث عنها إضافة إلى أننا نعيش في عالم كله من الذرات لأن بين كل ما هو موجود في الكون يوجد قاسم مشترك وحيد هو الذرة ممـا يعني أن عــالمـنا هو عــالم النواة و الإليكترون، والأشياء تتميز لنا فيه عن بعضها البعض باختلاف تركيباتها. أما عالم الوجود الأبدي فليس فيه ذرات لأنه ببساطة لو كانت فيه مثل هذه الأشياء لكان فانيا (لأن الذرات تفنى) وما لا يقبل الفناء يملك القوة على الوجود دائما ما دامت قوته لا تنحصر في مكان محدد أو زمان محدود الأمد، ولما كان في الكون كل شيء يموت ويفنى فلقد ترتب على ذلك أن يكون لوجوده ابتداء وظهوره لم يكن مستقلا عن ذات الوجود الدائم الذي هو الله بل جاء منه وسيبقى فيه. وبمشيئته انطلقت نشأته ومن ذاته الممثلة للوجود جاء كل شيء. ومما لا شك فيه أن جوهر الأشياء له ارتباط شديد بهذه الذات وبالتالي يكون هذا الجوهر هو مادة الكون، مثلما نقول عن الخشب مادة السبورة، فهو صلة الوصل بين الصانع والمصنوع بمعنى أنه الوسيلة التي سخرها الله من ذاته لصنع الكون ما دام هو منه، ولا يصح أن نقول أن الجوهر مادة الله لأن ليست لله مادة يمكن للعقل البشري تصورها، وإنما أعني بالجوهر هنا أصل السلسلة السببية الكامن وراء كل الأشياء الموجودة ومدعوم بقوة الله.
إن الكون مجبر على أن يسير على نظام لا بد منه ولا شيء فيه يحدث قبل أوانه وتبعا لذلك، فإن كل ما يحدث فيه إنما هو إلا نتيجة آلية لقوانين مختلفة وجد منسقة تعمل كلها تحت نظام القانون العام الذي وضعه الخالق منذ أول وهلة. ولصنع كون مثل كوننا لا يكلف ذلك من الله شيء فيكفيه أن يشاء ما دام هو منبع القوانين كلها. ولو حصل أن توصل العقل البشري إلى معرفة كل القوانين التي تحكم الكون فذلك لا يعني أن المعرفة البشرية قد بلغت الكمال فمهما وصلت من مستويات عالية ومهما توسعت فلن تتجاوز مجال الكون الصغير المهمل حجمه بالمقارنة مع أبدية مجال الله.
وتحتاج معرفة الكون ككل إلى معرفة الجزء منه معرفة دقيقة وكما سبق ذكره فبين كل ما فيه من سماوات، شمس، أقمار، كواكب، غابات، محيطات،غازات، جبال وحيوانات، يوجد قاسم مشترك وحيد هو الذرة التي لا زال لغزها يحير عقول علماء الفيزياء النووية. وإن لم نتوصل إلى معرفة العلاقة الأساسية لتركيب أصغر نظام في الكون فلن نتوصل أبدا إلى معرفة قانون أكبر نظام فيه.
حل لغز الكون في حل لغز الذرة.
معرفة الذرة
من المعروف أن الأشياء تنتج على أساس تجمع عدد معين من الجزيئات التي تكونها الذرات وتختلف وتتنوع هذه الأخيرة لاختلاف صيغ تركيباتها. وتتكون الذرة من مكونات تعمل على إبقاء وحفظ الطاقة التي تحتوي عليها وهذا العمل يجعلها تتميز بنظام فريد من نوعه. وإذا كانت الذرة تتجزأ فإن نظامها لا يتجزأ لأنه لا يحتوي على أنظمة جزئية فهو أصغر جزء في النظام كله مما يتحتم على تسلسل التطور الذي عرفته المادة أن ينطلق من شيء لا يقبل التجزئة، وما يجب فعله هو دراسة الذرة دراسة دقيقة من أجل معرفة ما إذا كان بها شيئا يمكن فعلا تسميته الجوهر.
إنه ليس من المغالاة في شيء قول أن العلاقة الأساسية التي تربط مكونات ذرة ما تربط كل الذرات المختلفة. فليس من الغريب إذا قول أن الصيغة التركيبية للذرات موروثة مثلما ترث النباتات والحيوانات صيغ تركيبها و الحديث عن هذه الصيغة يجر إلى البحث عن مصدر انبثاقها، ولهذا المصدر اليد الأولى في نشأتها وتطورها ومن ثم فإن أصل الذرة مرتبط كل الارتباط بأصل الكون الذي يبقى مجهولا رغم المحاولة التي قام بها العلماء في تأسيس نظرية الانفجار العظيم التي اتخذت منطلق لكثير من التيارات الفكرية والمدارس.
والنموذج المعروف للذرة هو عبارة عن نواة تحيط بها مناطق تسبح فيها الإلكترونات التي تدور حولها في مدارات ثابتة لا تتعداها إلا لطارئ. والذرة في مجموعها متعادلة الشحنة، نظرا لكون النواة لها شحنة موجبة وللإلكترونات شحنة سالبة. وتسمى القوى التي تربط بينهما بالقوى النووية. لجأ العلماء إلى وصفها أنها قوى من نوع غريب عن الأنواع التي يعرفونها، فبالرغم من معرفتهم النسبية لحقيقة قوى التنافر، يجدون أنه ليس من السهل فصل البروتونات من النواة.
إن ما جاء به العلماء لا يشرح لنا طبيعة العلاقة التي تجمع النواة بالإليكترونات، وما دام تعريف الإليكترون لا يزال مقتصرا فقط على كونه جسما له شحنة سالبة و يدور حول النواة فالفيزياء النووية لا تزال هي الأخرى مبنية على فرضيات، مثلما تزال الفيزياء الكونية مبنية على الأساطير. وبغض النظر عن طبيعة القوى النووية، ماذا تكون الإليكترونات؟- ما ماهيتها؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة وأخرى محيرة ستندرج ضمن النموذج الذي وضعته لتفسير مركبات الذرة بعدما درست النماذج التي وضعها العلماء وعرفت مواطن الضعف بها.
يتبع