الشـيخ عبد الله القرعـاوي


إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد ورسوله صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى واعلموا أن شهر رمضان المبارك هو شهر الصيام والقيام والإحسان وتلاوة القرآن، الذي جعل الله صيامه فريضة من فرائض هذا الدين وركناً من أركانه ومبانيه العظام، التي بني عليها وأسِّس، يصوم مسلمون نهاره فرضا، ويقومون ليله تطوعا، يتقربون فيه إلى الله بأنواع الطاعات، ويتنافسون في صالح الأعمال والقربات، لقد خصه الله بخصائص عظيمة وفضائل كثيرة فهو شهر الصيام والقيام وتنـزل القرآن وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والملائكة تستغفر للصائمين فيه حتى يفطروا، فيه تفتَّح أبواب الجنان وتغلَّق أبواب النيران، وتصفد الشياطين ومردة الجان، وتضاعف الحسنات وتغفر السيئات، ويعتق العباد من النيران، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها حُرم الخير كله، من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، اختصه الله من بين سائر الطاعات له ووعد عليه بجزيل الأجر والثواب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ... وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ...» متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ» رواه أحمد والحاكم.
وعن سهل ابن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» متفق عليه.

عباد الله:
إن فضل الصيام في غير رمضان عظيم، فكيف به في شهر رمضان؟ شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» متفق عليه.
وإن الصيام والصدقة والإحسان والتراحم من أسباب دخول الجنة روى أحمد والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» فقام إليه أعرابي فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ».
عباد الله:
ورمضان هو شهر القرآن نزل فيه على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان يتفرغ فيه لمدارسة القرآن مع جبريل عليه السلام، وقد كان سلف هذه الأمة يعكفون في شهر رمضان على تلاوة القرآن، وتدبر معانيه والعيش في رياضه والعمل بما فيه، حتى قال الإمام الزهري: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام".
وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، فينبغي أن تكون عناية المسلم بالقرآن في رمضان مضاعفة، قراءة وحفظاً واستماعا وتدبراً وفهما، مصحوبةً بالخشوع وتحريك القلوب، والوقوف عند عجائبه ومعانيه.
عباد الله:
والإكثار من الاستغفار والذكر والتسبيح والدعاء من القربات العظيمة التي تكون سبباً في حصول رحمة الله وفضله، فإن الله سبحانه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته فيقول: «هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه هل من داعٍ فأستجيب له حتى يطلع الفجر».
وروى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
فجاهدوا أنفسكم على العمل بطاعة الله وشدوا العزم على الاستقامة والتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن شهر رمضان المبارك ليس شهراً للَّعب والسهر واللهو والتكاسل والنوم وتضييع الصلوات والتفريط في الطاعات والأعمال الصالحات، وليس شهراً للفزع للأسواق والتفنن في المطاعم والمشارب، فإن بعض الناس لا يعرفون من رمضان إلا هذه المعاني والغايات الرخيصة، يصومون عن المباحات ويفطرون على المحرمات، يستثقلون الصيام ويفرطون في القيام وصالح الطاعات، بل يفرطون في الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وماذا يستفيد من الصيام من ترك الصلاة العهد الذي بينه وبين الله؟، بل إن بعض الناس في رمضان لا يتركون الغيبة ولا يتنزهون عن النميمة ولا يصونون ألسنتهم عن الكذب واللغو وفاحش القول وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» رواه البخاري.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى واعلموا أن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واحذروا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين وانصر، عبادك الموحدين، واحمِ حوزة الدين.
اللهم وآمنا في دورنا وأوطاننا وأصلح ووفق ولاة أمورنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وأولادنا وأزواجنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
-(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)- [الصافات/180-182].