مقدمة المصنف

الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، وصلواته على محمّد النبي وآله أجمعين. قد أنعم الله علينا، معاشر خدم مولانا الملك السيّد الأجلّ، وليّ النعم - أطال الله بقاءه، وأكبّ أعداءه، وحرس ملكه، وأعزّ سلطانه - لمّا أخرجنا في زمانه، وأنشأنا في أيامه، وبوّأنا ظلّه، وأنزلنا كنفه، وجعلنا من خاص خدمه.
فنحن نتقلّب من نعمه فيما لا شكر له غير الدعاء، ولا ثمن له غير الثناء، فنسأل الله بأخلص نيّة وأصدق طويّة، إدامة أيّامه، والإمتاع بما خوّلناه من إنعامه، إنّه جواد كريم.
وإني لمّا تصفّحت أخبار الأمم، وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان، وكتب التواريخ، وجدت فيها ما تستفاد منه تجربة لا تزال يتكرّر مثلها وينتظر حدوث شبهها وشكلها: كذكر مبادئ الدول، ونشء الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافى من تلافاه وتداركه إلى أن عاد إلى أحسن حال، وإغفال من أغفله واطّرحه إلى أن تأدّى إلى الاضمحلال والزوال، وذكر ما يتّصل بذلك من السياسات في عمارة البلدان، وجمع كلم الرعيّة، وإصلاح نيّات الجند، والحروب ومكايد الرجال، وما تمّ منها على العدوّ، وما رجع على صاحبه، وذكر الأسباب التي تقدّم بها قوم عند السلطان، والأحوال التي تأخّر لها آخرون، وما كان منها محمود الأوائل مذموم العواقب، وما كان بضدّ ذلك، وما استمرّ أوّله وآخره على سنن واحد، وذكر سياسات الوزراء، وأصحاب الجيوش، ومن أسند إليه حرب وسياسة، أو تدبير أو إيالة، فوفى بذلك وتأتّى له، أو كان بخلاف ذلك.
ورأيت هذا الضرب من الأحداث، إذا عرف له مثال مما تقدّم، وتجربة لمن سلف، فاتّخذ إماما يقتدى به، حذر مما ابتلى به قوم، وتمسّك بما سعد به قوم.
فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها، واحتنك بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كله، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخبر وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لحظه، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غرّا غمرا لا يتبيّن الأمر إلّا بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره كلّ خطب يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له.
ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التي تجرى مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتى ضاع بينها، وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به، ولم يتصل لسامعه وقارئه اتصالا يربط بعضه بعضا، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجيء أختها، وتتفلّت من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها.
فلذلك، جمعت هذا الكتاب، وسمّيته تجارب الأمم. وأكثر الناس انتفاعا به وأكبرهم حظّا منه، أوفرهم قسطا من الدنيا، كالوزراء، وأصحاب الجيوش، وسوّاس المدن، ومدبّرى أمر العامّة والخاصّة. ثم سائر طبقات الناس. وأقلّ الناس حظّا، لا يخلو أن ينتفع به في سياسة المنزل، وعشرة الصديق، ومداخلة الغريب، ولا يعدم مع ذلك، أنس السمر الذي يوجد في القسم الآخر الذي اطّرحناه.
وبعد، فلو كان الخادم لا يتقرّب إلّا بما يعزّ وجوده عند سلطانه، ولا يلطف في الخدمة إلّا بما لا يجد مثله، لانقطعت أسباب الهدايا والتحف، وارتفعت الملاطفات بالآداب والطرف، ولا سيما عند من كان في علوّ الهمّة، وتوقّد القريحة، وحفظ الآداب، وسياسة الملك والرعيّة في الخير، على ما عليه الملك السيّد، أدام الله سلطانه.
وأنا مبتدئ بذكر الله ومنّته، بما نقل إلينا من الأخبار بعد الطوفان، لقلّة الثقة بما كان منها قبله، ولأنّ ما نقل [ إلينا ] أيضا لا يفيد شيئا مما عزمنا على ذكره وضمنّاه في صدر الكتاب. ولهذا السبب بعينه، لم نتعرّض لذكر معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - وما تمّ لهم من السياسات بها، لأنّ أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهمّ إلّا ما كان منها تدبيرا بشريّا لا يقترن بالإعجاز.
وقد ذكرنا أشياء مما يجرى على الاتّفاق والبخت وإن لم يكن فيها تجربة، ولا تقصد بإرادة. وإنّما فعلنا ذلك لتكون هي وأمثالها في حساب الإنسان وفي خلده ووهمه، لئلّا تسقط من ديوان الحوادث عنده وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه إلّا بالاستعانة بالله، ولا توقّعا لمحبوبه إلّا بمسألته التوفيق، وهو - عزّ اسمه - خير موفّق ومعين.
الفيشداذية ومن عاصرهم