[ تجارب العصر الأموي ]

أيام معاوية بن أبي سفيان

ذكر مماحكة جرت بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص

استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة، فقال: « استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة، وأباه عمرا على مصر، تكون أنت بين لحيي الأسد. » فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، وبلغ عمرا ما قاله المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على معاوية، فقال: « أتستعمل المغيرة على خراج الكوفة، فيغتال المال، ويذهب به، فلا تستطيع أن تأخذه منه؟ استعمل على الخراج رجلا يهابك، ويتّقيك. » فعزل المغيرة عن الخراج، واستعمله على الصلاة. فلقى المغيرة عمرا، فبدأ عمرو وقال: « أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت، في عبد الله؟ » قال: « نعم. » قال: « فهذه بتلك! »
المغيرة بن شعبة يختار الدعة

ولمّا ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، أتاها، وترك التشدّد، وإثارة الناس عن أهوائهم، وأحبّ السلامة، واختار الدعة، فكان يرى، فيقال له: فلان بن فلان يرى رأى الشيعة، وفلان يرى رأى الخوارج، فكان يقول: « قضى الله أن لا تزالوا مختلفين، وسيحكم بين عباده. » فأمنه الناس.
فكان عاقبة هذا الفعل منه أن لقيت الخوارج بعضها بعضا، ورأوا أنّ في جهاد الناس الفضل والأجر.
ففزعوا إلى رؤسائهم، وتجمّعوا، وتمّت آراؤهم، واجتمع أمرهم، وبايعوا المستورد بن علّفة، وكان زياد متحصّنا بفارس، قد عمر قلعة إصطخر. فكان معاوية يكاتبه، ويطالبه بالمال، ويستقدمه، فيأبى.
فأرق معاوية ذات ليلة، فلمّا أصبح، دعا بالمغيرة بن شعبة، فقال له: « كيف أنت بسرّ أستودعك؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، إن تستودعنى، تستودع ناصحا، شفيقا، ورعا، وثيقا. »
رأي لمعاوية وتدبير صحيح

قال: « ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بالقلعة، فلم أنم ليلتي. »
فأراد المغيرة أن يطأطئ من زياد، فقال: « ما زياد هناك، يا أمير المؤمنين. » قال: « بئس الوطاء العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصّن بقلاع فارس، يدبّر، ويربّض الخيل. ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعاد الحرب جذعة. » فقال المغيرة: « أتأذن لي، يا أمير المؤمنين، في إتيانه؟ » قال: « نعم، وتلطّف! » كان المغيرة يحفظ يدا لزياد عنده، فأتى المغيرة زيادا. فقال زياد لمّا رءاه: « أفلح الزائر. » فقال المغيرة: « إليك ينتهى الخبر، أنا المغيرة، إنّ معاوية استخفّه الوجل، حتى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر، غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى معاوية عنك. » قال: « أشر عليّ، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإنّ المستشار مؤتمن. » فقال المغيرة: « في محض الرأي بشاعة، ولا خير في التمذيق، أرى أن يصل حبلك بحبله، وتشخص إليه. » قال: « أرى، ويقضى الله. » وأقام زياد في القلعة، وجعل يرتأى ويمكر.
ذكر حيلة لزياد على معاوية

فسنح لزياد من الرأي أن دعا بعض ثقاته، وبذل له، ومنّاه ووعده، وقال: « امض، حتى تأتى معاوية، فإنّه سيدعوك، ويسألك عني، فقل له: إنّك قد أمهلته، وأضربت عنه، مع ما قد احتجبه من الأموال، وارتكبه من الأمور، حتى قد شاع في الناس: أنّك إنما ترخى له الحبل، وتساهله، للنسب بينكما. فإذا قال: وما ذاك؟ فقل: يقول الناس: إنّه أخوك، وإنّك قد عرفت ذاك له. »
فذهب الرجل، حتى أتى معاوية، فجرى بينهما ما لقّنه زياد. فقال معاوية: « أو قد تحدّث الناس بذلك؟ » قال: « نعم. » فسكت معاوية، وخرج الرجل من عنده، وشاع المجلس، وقال الناس: « زياد بن أبي سفيان. » ثم كاتب زياد معاوية، وأجابه، واستقرّت المكاتبة بينهما، إلى أن ورد على معاوية، على أن يرفع إليه حسابا بما صار إليه من الأموال، ويصدقه في ما خرج منه إلى أمير المؤمنين، وما بقي عنده.
فخرج إليه زياد، فأخبره بما حمله إلى عليّ بن أبي طالب وما فرّقه في الأرزاق، والحمالات، وبقّى بقيّة، وقال: « قد أودعتها عند قوم. » فصدّقه معاوية، ومكث يردّده بذلك.
ثم كتب زياد كتبا إلى قوم: « قد علمتم ما لي عندكم من الودائع، وهي الأمانة الّتى يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، الآية، فاحتفظوا بما قبلكم. » وسمّى في الكتب بالذي أقرّ لمعاوية، ودسّ الكتب مع رسوله، وأمره أن يتعرّض لبعض من يبلغ معاوية، فتعرّض الرسول حتى أخذ، فأتى به معاوية.
فقال معاوية لزياد: « لئن لم تكن مكرت بي، إنّ هذه الكتب لمن حاجتي. » فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقرّ به لمعاوية. فقال معاوية: « أخاف أن تكون مكرت بي، فصالحنى عليها. » فصالحه على شيء، ممّا ذكر أنّه عنده، فحمله.
ذكر حيلة لعبد الله بن خازم

كان عبد الله بن عامر، واليا على البصرة، من قبل معاوية، فأنفذ إلى خراسان قيس بن الهيثم، واستبطأه في بعض الأحوال، وكتب إليه، يستحثّه حمل المال.
وكان عبد الله بن خازم حاضرا، فقال لابن عامر: « إنّك قد وجّهت إلى خراسان رجلا ضعيفا، وإني أخاف: - إن لقي حربا - أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك. » قال ابن عامر: « فما الرأي؟ » قال: « تكتب لي عهدا - إن هو انصرف عن عدوّ - قمت مقامه. » فكتب له، وسار عبد الله بن خازم إلى خراسان فجاشت جماعة من طخارستان فشاور قيس بن الهيثم الناس، فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه، فانصرف. فلمّا سار مرحلة أو مرحلتين، أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدوّ، فهزمهم. وبلغ الخبر المصرين، والشام، فغضبت القيسيّة وقالوا: « خدع قيسا وابن عامر ».
وأكثروا في ذلك على معاوية، حتى بعث إلى عبد الله بن خازم، فقدم به واعتذر ممّا قيل فيه.
فقال معاوية: « فإذا كان غدا، فقم في الناس، واعتذر! » فرجع ابن خازم إلى أصحابه، فقال: « قد أمرت بالخطبة، ولست صاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلّمت، فصدّقونى. » فقام من الغد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: « إنّما يتكلّف الخطبة، إمّا من لا يجد بدّا منها، وإمّا أحمق يهمر رأسه، لا يبالى ما خرج منه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أنّى بصير بالفرص، وثّاب عليها، وقّاف عند المهالك، أنفذ بالسريّة، وأقسم بالسويّة. أنشدكم بالله، من كان يعرف ذلك مني، لمّا صدّقنى. » فقال أصحابه حول المنبر: « صدقت. » فقال: « يا أمير المؤمنين، [ إنّك ممّن ] نشدتك، قل ما تعلم! » فقال: « صدقت. »
ذكر تدبير نفذ للمغيرة بن شعبة على زياد