يزيد بن المهلب والفحل بن عياش كل قتل صاحبه!

« يا أهل الشام، هذا يزيد والله لأقتلنّه، أو يقتلني. إنّ معه ناسا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ » فقال ناس من أصحابه:
« نحن نحمل معك. » ففعلوا، وحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن الفحل بن عيّاش بآخر رمق. فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم:
« أنا قتلته. » ويومي إلى نفسه أنّه:
« هو قتلني »! وكان مسلمة لا يصدّق أنّه هو قتله. فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وأبلى يومئذ المفضّل بن المهلّب بعد قتل يزيد وإخوته حتى ظنّ أنّه يتلافى الأمر وحده مع نفر معه يذمر بهم ويقول لهم:
« غضّوا أبصاركم ولا تلتفتوا، فداءكم أبي وأمي. » ويحمل الحملات الصادقة حتى تفرّقت عنه تلك العصابة وبقي وحده. فأخذ الطريق إلى واسط. فقال الناس:
« ما رأينا من العرب رجلا في مثل منزلته كان أغشى للبأس بنفسه ولا أضرب بسيفه ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه. » وأسر أهل الشام خلقا من أصحاب يزيد، فسرّح بهم إلى محمّد بن عمرو بن الوليد، فحبسهم إلى أن جاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمّد بن عمرو أن:
« اضرب أعناق الأسرى. » فقال للعريان بن الهيثم وكان على شرطته:
« أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين. » فقام قوم من بنى تميم وهم لا يدرون ما ذا يراد بهم، فقالوا:
« اتّقوا الله وابدأوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فإنّا نحن انهزمنا بالناس. » فقال لهم العريان:
« اخرجوا على اسم الله! » فأخرجهم إلى المصطبّة، ثم أرسل إلى محمّد بن عمرو، ويخبره بإخراجهم وبمقالتهم. فبعث إليه أن:
« اضرب أعناقهم. » فتحدّث نجيح مولى زهير قال: والله إني أنظر إليهم وهم يقتلون وإنّهم ليقولون:
« إنّا لله، انهزمنا بالناس وهذا جزاؤنا. » فما هو إلّا أن فرغ منهم جاء رسول مسلمة بكتابه فيه النهي عن قتل الأسرى وإطلاقهم. وكان مسلمة ضمن لهم ضمانات وواطأهم إذا رأوا دخان الحريق من الجسر أن ينهزموا بالناس. ففعلوا، ثم قتلوا.
ولمّا جاء فلّ يزيد إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلّب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا في يديه، فضرب أعناقهم. منهم: عديّ بن أرطاة، وابنه محمّد بن عديّ ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم من الأشراف. وكانوا قالوا له:
« ويحك! إنّا لا نراك تقتلنا إلّا أنّ أباك قد قتل، وأنّ قتلنا ليس بنافعك في الدنيا وهو والله ضارّك في الآخرة. » فقتلهم كلّهم إلّا ربيع بن زياد بن ربيع بن أنس. فقال له قوم:
« نسيته. » فقال:
« ما نسيته ولكن لم أكن لأقتله وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف، ولست أتّهمه في ودّ، ولا أخاف بغيه. » ورثى الشعراء يزيد وإخوته المقتولين فأكثروا.
وأقبل معاوية بن يزيد حتى أتى البصرة معه المال والخزائن. وجاء المفضّل، فاجتمع إليه جميع آل المهلّب بالبصرة، وقد كانوا أعدّوا السفن البحريّة وتجهزوا بكلّ الجهاز، لأنّهم كانوا يتخوّفون ما كان، وقد كان يزيد بن المهلّب بعث وداع بن حميد الأزديّ على قندابيل أميرا، فقال له:
« إني قد اخترتك من بين قومي لأهل بيتي، فكن عند حسن ظنّى بك. » وأخذ عليه أيمانا غلاظا، وقال:
« إني سائر إلى هذا العدوّ ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى يكون لي، أو لهم، وإن ظفرت أكرمتك، وإن تكن الأخرى ولجأ إليك أهل بيتي كنت في حصن معهم وآويتهم حتى يأخذوا لأنفسهم أمانا. » ولمّا اجتمعوا بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لجّجوا في البحر حتى مرّوا بمهزّم بن الفزر، وكان يزيد استعمله على البحرين. فقال لهم:
« أشير عليكم أن لا تفارقوا سفنكم فإنّ ذلك بقاؤكم، وإن خرجتم منها يخطفكم الناس وتقرّبوا بكم إلى بنى مروان. » فخالفوه ومضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالهم وأموالهم على الدوابّ. وكان معاوية بن يزيد بن المهلّب حين قدم البصرة بالخزائن والأموال أراد أن يتأمّر عليهم. فاجتمع آل المهلّب، فأمّروا عليهم المفضّل بن المهلّب، وقالوا:
« المفضّل أكبرنا وسيّدنا وإنّما أنت غلام حدث السن كبعض فتيان أهلك. » فلم يزل المفضّل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان وبكرمان فلول كثيرة.
فاجتمعوا إلى المفضّل.
وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضبّ الكلبى في طلب آل المهلّب وفي أثر الفلّ. فأدرك مدرك المفضّل بن المهلّب وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس.
فاتّبعهم فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتدّ قتالهم. فقتل ممن كان مع المفضّل: النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك دهستان أسيرا، وجرح عثمان بن إسحاق، ومحمّد بن الأشعث جراحة شديدة وهرب حتى بلغ حلوان. فدلّ عليه هناك فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة.
ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلّب فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم: مالك بن إبراهيم بن الأشتر والزّرد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن محمّد مواطنه كلّها.
ومضى آل المهلّب ومن سقط إليهم إلى قندابيل، وكان مسلمة ردّ مدركا الضبيّ وسرّح في أثرهم هلال بن أحوز التميميّ من بنى مازن بن عمرو بن تميم، فلحقهم بقندابيل. فأراد آل المهلّب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد، وكاتب هلال بن أحوز ولم يباين آل المهلّب فيحذروه. فلمّا التقوا للحرب وصفّوا كان وداع بن حميد على الميمنة وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزديّ. فرفع لهم هلال بن أحوز المازني راية الأمان، فمال إليها وداع بن حميد وغدر بآل المهلّب، وتبعه عبد الملك بن هلال، وارفضّ عنهم الناس فخلّوهم.
فلمّا رأى ذلك مروان بن المهلّب ذهب يريد الانصراف إلى النساء، فقال له المفضّل:
« أين تريد؟ » قال:
« أدخل إلى النساء من أهلى فأقتلهنّ لئلّا يصل إليهنّ هؤلاء الفسّاق. » فقال:
« ويحك! أتقتل أخواتك وبنات أخواتك ونساء أهلك؟ إنّا والله ما نخاف عليهنّ منهم. » فردّه عن ذلك.
ثم مشوا بالسيوف وقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلّا عيينة بن المهلّب وعثمان بن المفضّل بن المهلّب، فإنّهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث برؤوسهم ونسائهم وأولادهم إلى مسلمة بن عبد الملك.
منع الجراح من بيع ذرية آل المهلب

وقال مسلمة:
« والله لأبيعنّ ذرّيّتهم. » وكانوا في دار الرزق. فقال الجرّاح بن عبد الله:
« فإني أشتريهم منك لأبرّ قسمك. » فاشتراهم منه بمائة ألف درهم. قال:
« هاتها. » قال:
« إذا شئت [ فخذها ]. » ثم تركها عليه ولم يطالبه بها، وخلّى سبيلهم إلّا تسعة فتية منهم أحداثا بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب أعناقهم. ورثاهم الشعراء.