قال (ص13): (ولا يتوهمن أحد أني بدع في ذلك، فإن علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلته إليهم كتب السنة، فليسعني ما وسعهم بعد ما تبين لي ما تبين لهم، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمل سيل الرواية، سواء كان صحيحًا أم غير صحيح، ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم).
أقول: لم يجهل أحد من أهل العلم ما قدمته قريبًا في شأن صحة الحديث، ولكنهم لا يجيزون مخالفة حديث تبين إمكان
7
صحته ثم ثبت صحة إسناده ولم يعلم ما يقدح فيه أو يعارضه. وأبو رية يعيب عليهم هذا، ويبيح لنفسه أن يعارض نصوص القرآن وإجماع أهل الحق بأحاديث وأخبار وحكايات لا يعرف حال أسانيدها، ومنها الضعيف والواهي والساقط والكذب، ويكثر من ذلك كما ستراه.
قد يقال: ربما يدّعي أنه أصبحت له ملكة وذوق يعرف بهما الصحيح بدون معرفة سند ولا غيره!
أقول: هذه دعوى لا تقع من عاقل يحترم عقول الناس، وقد قال أبو رية (ص21): (قد ثبت أن النبي كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون). ونقل (ص142) عن صاحب المنار محتجًا به قوله: (والنبي ما كان يعلم الغيب، فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق المنافقين والكفار في أحاديثهم) فهل يدّعي أبو رية لنفسه درجة لم يبلغها النبي ولا غيره؟ إذن فلن نعدم ممن عرف ما في كتابه هذا وأضعاف أضعافه من يعارضه قائلًا: قد حصل لي ملكة وذوق أعلى مما حصل لك، وأنا أعرف بطلان هذا الذي احتججت به، فتسقط الدعويان، ويقوم العقل والعدل. أما ما ذكره عن علماء الأمة فستأتي حكايته في ذلك ونبين حالها إن شاء الله، والحق أنه لم يكن في علماء الأمة المرضيين من يرد حديثًا بلغه إلا لعذر يحتمله له أكثر أهل العلم على الأقل، ولو كان حال أبي رية في الرد والعذر كحال أحدهم لساغ أن يقال: يسعه ما يسعهم، وإن كان البون شاسعًا جدًا. ولكن له شأن آخر كما يأتي.
قال: قال ابن أبي ليلى: (لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع) وقال عبد الرحمن بن مهدي: (لا يكون إمامًا في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أوحدث عن كل أحد).
أقول: هذا موجه إلى فريق من الرواة كانوا يكتبون ويروون كل ما يسمعون من الأخبار، يرون أنه ليس عليهم إلا الأمانة والصدق وبيان الأسانيد، تاركين النقد والفقه في الحديث والإمامة لغيرهم. فأما الأخذ والرد للعمل والاحتجاج، فكل أحد يعلم أنه يؤخذ ما يصح، ويترك ما لا يصح. ومر قريبًا حال أبي رية في هذا.
قال أبو رية: (ولما كان هذا البحث لم يعن به أحد من قبل كما قلنا…).
أقول: قد تقدم أن الذي يسوغ له ادعاؤه هو أنه جمع في كتابه هذا ما لم يجمع في كتاب من قبل، والقناعة راحة.
ثم قال: (وكان يجب أن يفرد بالتأليف منذ ألف سنة عندما ظهرت كتب الحديث المعروفة… حتى توضع هذه الكتب في مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما روي فيها من أحاديث …).
أقول: إن ما جمعه في كتابه من كلام غيره منه ما هو مقبول، ومنه ما يعلم حاله من رسالتي هذه. فأما المقبول فمن مؤلفات
8
المحدثين نقل، وفيها أكثر منه وأنفع وأرفع، وأما المرذول فليس له حساب، وقد نبهوا عليه في مؤلفاتهم، وكثرة الباطل نقصان، غير أن للباطل هواة: منهم طائفة يثني عليها أبو رية من قلبه، وطائفة لا يرضاها ولكنه رأى أن في كلامه ما يعجبها فراح يتملقها في مواضع رجاء أن يروج لديها كتابه كما راج لديها كتاب فلان.
ثم قال (ص14): (ولأن هذا البحث كما قلنا طريف أو غريب).
أقول: قد خجلت من كثرة مناقشة أبي رية في إطرائه لكتابه، مع أنه عنده بمنزلة ولده يتعزى به عن ولده العزيز مصطفى، ولذلك جعله باسمه كما ذكره أول الكتاب تحت عنوان: (الإهداء)، وأحسبه يتصور أن الرد على كتابه معناه أن يلحق هذا الولد بمصطفى، ولذلك يقول هنا: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفنت أفكارهم وتحجرت عقولهم) ولو قال: قلوبهم لكان أنسب لحاله.
قال: (فقد استكثرت فيه من الأدلة التي لا يرقى الشك إليها، وأتزيد من الشواهد التي لا ينال الضعف منها).
أقول:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ** أفرسٌ تحتك أم حمار!
قال: (وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها).
أقول: قد ذكر هو (ص327) أن علماء الحديث قد عرفوا تلك الأصول ونقل عن صاحب المنار قوله: (إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها.. ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في عصرنا: النقد التحليلي) فإن كان أبو رية يحسنه فإنما عدل عنه ليتسع له المجال فيما يكره أن يتضح للمثقفين.
لكن قال بعد هذا: (وقد اضطررت إلى ذلك؛ لأن قومنا حديثو عهد بمثل هذا البحث، على أني أرجو أن يكون قد انقضى ذلك العهد الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرئاء الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضى عنه من يزعمون للناس زورا أنهم من المحدِّثين أو العلماء). وهذا يشعر أو يصرح بأنه يريد بالنقد التحليلي أمرًا آخر انصرف برغمه عنه اتقاء لعلماء المسلمين وعامتهم وأخذًا بنصيب مما يسميه بالنفاق العلمي والرئاء الديني. وفي كتابه أشياء تدل على قرب وأشياء تدل على بعد، وعبارته هذه ونحوها قريب من الضرب الأول وتلفت النظر إلى الثاني، فمنه ما مر في أول كتابه من الإشارة إلى أن جميع الذين اشتهروا في القرون الأولى