تعتبر الدول العربية من الدول التي لم تلجأ حكوماتها إلى تخصيص قسم مقبول من احتياطاتها لتحتفظ به على شكل ذهب، إذ يبلغ مجموع احتياطات الدول العربية مجتمعة من الذهب ما يعادل 1006 أطنان "بالسعر الحالي نحو 36 مليار دولار" وهو قليل جداً بالنسبة لاحتياطاتها من العملات الصعبة التي بلغت ما يعادل 505مليارات دولار. ومقارنة مع أميركا فإنها تحتفظ بـ 8133 طن ذهب مقابل 49.5 مليار دولار عملات صعبة، وتأتي بالدرجة الثانية ألمانيا التي تحتفظ بـ 3417 طن ذهب مقابل 35 مليار دولار عملات صعبة ثم فرنسا التي تحتفظ بـ 2622 طن ذهب مقابل 35 مليار دولار. وتأتي لبنان في مقدمة الدول العربية إذ تحتفظ بـ 286.8 طن ذهب أما السعودية فتحتفظ بـ 143 طن ذهب وحسب تقديرات مؤسسة النقد العالمية فإن سورية تحتفظ بـ 25.9 طن ذهب.
ولكن ما يثلج الصدر أن الشعوب العربية هي من أكثر الشعوب التي تحتفظ بالذهب وتعتبره نوعاً من الاحتياط التي تحتفظ به العائلات لحين الحاجة ومعظمه يكون على شكل حلي، وما ساعد على هذا أن كلفة تصنيع المجوهرات غير مرتفعة كما هي الحال في الدول الغربية، إذ يكون سعر التصميم أحياناً أضعاف سعر الذهب الموجود في قطع الحلي. ولقد أثبتت تجربة العائلات العراقية صدق هذا التدبير فلقد باعت معظم النسوة العراقيات حليهن في أزمة العراق التي جسمت ثقيلة على صدر شعبه وساهم ذلك في تخفيف وطأة السنين العجاف التي حلّت على بلاد الرافدين.

حقيقة تسعير الذهب
لم يخطر على بال أحد من قبل أن سياسة خاطئة قد تؤدي إلى مثل هذا الحجم من الأضرار على أحد أهم مقومات الاقتصاد الوطني. فمنذ عدة سنوات حين بدأ الذهب بالارتفاع أقدمت جمعية الصياغ على خطوة تسعير الذهب عيار 21 و18 بسعر أقل من سعره العالمي. وسنشرح للقرّاء الكرام كيف يمكن احتساب سعر الذهب الحقيقي. إن الأسعار العالمية تنشر يومياً بل وبشكل متواصل بالدولار مقابل الأونصة. وتبلغ الأونصة 31.1034 غراماً لذا يمكن اللجوء إلى المعادلة التالية لمعرفة السعر الحقيقي للذهب عيار 21 بالليرة السورية "قيمة الذهب عيار 21 بالليرة السورية = قيمة الأونصة بالدولار مضروبة بسعر الدولار بالليرة ويتم تقسيمها على 31.103 مضروبة بـ 0.875" فمثلاً كان سعر الذهب بتاريخ 30 نيسان (أبريل) الماضي 1179 دولاراً للأونصة وكان سعر الدولار 46.2 فيكون السعر الحقيقي للذهب عيار 21 = 1532.2 ولكن نجد أن جمعية الصاغة وضعت سعر الذهب 1505 ليرات سورية. وحتى لا يضلّل أحد الناس قائلاً إن سعر الذهب يتغير كل دقيقة فكيف نتمكن احتساب السعر الحقيقي ومقارنته مع سعر جمعية الصاغة، نجيب هؤلاء بأننا قمنا بحساب سعر الذهب يوم السبت حيث لا يكون هناك أي تغير عالمي بسعر الذهب. وكذلك نشير إلى أن السعر في الدول المجاورة يتم الإضافة إليه سعر نقل الكيلو "أي أن الأسعار تزيد على الأقل 5 ليرات للغرام عن السعر العالمي".

كلفة التهريب
ماذا تعني تلك السياسة؟ إنها تماماً مثل محلين أحدهما يقول نشتري بـ 90 ونبيع بـ 95 وفي مقابله محل آخر يقول نشتري بـ 100 ونبيع بـ 105. ببساطة دعوى لكل من انعدم عنده الضمير أن يقوم بتهريب الذهب إلى الخارج إذ تقدر كلفة التهريب بـ 10000 ليرة سورية للكغ الواحد "شاملة كل النفقات" ويعني هذا أن الذهب سينتقل للدول المجاورة، وهذا ما حصل بالفعل، إذ يقدر أن صافي كمية الذهب الذي تم إخراجه سنوياً خارج سورية "الذهب المحلي المهرّب للخارج مطروحاً منه كمية الذهب الذي يتم تهريبه للداخل على شكل سبائك كغ والذي يتم دخوله وفقاً للسعر العالمي مضافاً إليه كلفة التهريب أي 10000 ليرة للكغ" وفقاً لتقديرات معتدلة إلى 30 طن سنوياً أي ما يعادل على السعر الحالي 45 مليار ليرة سورية "نحو مليار دولار". وكانت الأجهزة المختصة تحبط كل فترة محاولات تهريب كبيرة.
قد يحاجج البعض أن مقابل هذا الذهب دخل مليار دولار سنوياً إلى سورية. ولكن الحقيقة أن هذه الحركة بدأت حين كان سعر الذهب 650 دولاراً للأونصة أي أن الذهب بدأ بالخروج حين كان السعر منخفضاً نسبياً. وهل يمكن مقارنة الأمان في الذهب كالأمان في العملات الورقية.
ومن المفارقات أنه في البلد الذي يلجأ فيه التجار إلى رفع سعر الذرة مثلاً قرشين حين يرتفع سعره عالمياً قرشاً، واحداً ويتضاعف فيه سعر الأرز بسبب ارتفاعه عالمياً، وحين يهبط السعر عالمياً لا يتم تنزيل الأسعار لتتطابق الأسعار مع الواقع العالمي يتم بيع الذهب وعليه تنزيلات "تماماً مثل من يبيعك الدولار ثم يقوم بإجراء حسم". لا يوجد أي مبرّر أخلاقي أو اقتصادي لهذا العمل وكل من ساهم في هذا العمل عن قصد أو غير قصد أخطأ بحق الوطن.
وهنا لا بد أن نشير إلى أمرين: أولهما أنه في فترات سابقة حين كان سعر الذهب عالمياً بحدود 400 دولار كانت الجمعية تسعّر الذهب بأكثر من سعره العالمي، ما أدى إلى أن سورية أصبحت دولة جاذبة للذهب ودخلت كميات منه من تركيا والعراق لأن التجار في تلك الدول صدّروا الذهب إلى سورية.
ثانيهما لا توجد حالة مثيلة بأن يتم بيع الذهب بأقل من قيمته العالمية، وقد يحدث بعض الهفوات سرعان ما يصححها السوق. فمثلاً في بورصة باريس في التسعينيات من القرن الماضي كان يتم بيع الذهب السبائك الكيلو Linguot منفصلاً عن مكان بيع الذهب في القطع النقدية مثل الليرة الإنكليزية والنابليون، لذا كان يصدف بشكل نادر أن يكون الذهب على شكل قطع نقدية أرخص من الذهب على شكل الكيلو وكل من يملك المعادلة التي تبين هذا الفرق يسارع إلى شراء الذهب على شكل قطع وكانت الأسعار ترتد إلى السعر الحقيقي في اليوم التالي لأن التوازن لابد أن يحدث.
ولنعرف مدى الضرر الذي تعرض له الوطن يكفي أن نعرف المردود الضئيل الذي حققه تجار الذهب الجملة من تلك المبيعات سنوياً فهو لا يتجاوز 150 مليون ليرة "سعر الفرق بين البيع والشراء الذي يعادل وسطياً 5 ليرات للغرام". ولو كان الذهب يخرج على شكل مجوهرات لكنّا قلنا إنه على الأقل تحققت قيمة مضافة بل إنه يخرج على شكل مادة خام، وأما كلفة التهريب فتعادل تقريباً 300 مليون ليرة سنوياً أي تم إخراج ما قيمته 45 مليار ليرة سورية سنوياً من أجل ربح بخس قدره 150 مليون ليرة سورية.
لا تتحمل جمعية الصاغة وحدها المسؤولية، فأين دور وزارة الاقتصاد التي يجب أن يكون لها رؤية استراتيجية وتعرف أهمية الحفاظ على المخزون الوطني من الذهب خاصة أن سورية ليست من الدول المنتجة للذهب وهذا المخزون تم بناؤه على مدى طويل جداً ولا يمكن لأحد أن يقدّر حجمه بشكل دقيق؟
كان الحل يكمن ببساطة أن يتم تسعير الذهب وفق المنطق حسب سعره العالمي دون إضافة أي كلفة عليه وبذلك تنتفي المصلحة بتهريبه للخارج. ولكن لماذا لجأت الجمعية إلى ذلك؟
هنا لابد أن نشرح مع بعض التفصيل آلية عمل سوق الذهب في سورية لمحاولة إيجاد الحلول العملية.

آلية عمل سوق الذهب المحلي
لكل صائغ رأسمالان أحدهما بالليرة السورية والآخر بالذهب، فمثلاً يمكن لصائغ أن يكون لديه في عام 2004 سيولة نقدية مقدارها مليون ليرة وكمية ذهب تعادل 8 كغ "سعر الكيلو وقتها أقل من 500 ألف ليرة" فيكون رأسماله الإجمالي 5 ملايين ليرة سورية. إذا احتفظ بالكمية نفسها حتى وقتنا هذا فسيكون رأسماله بالليرة السورية 13 مليون ليرة. لذلك يعمد الصائغ إلى الاحتفاظ دوماً بوزن معين من الذهب. لو تصرف هذا الصائغ وباع الذهب في فترات سابقة لكان رأسماله الأصلي لا يشتري له إلا نصف كمية الذهب التي كانت عنده، ويعمد الصياغ إلى شراء الذهب من تجار الذهب الجملة بشكل يعادل كمية المصاغ الذي يبيعونه، وأما إذا اشتروا ذهباً قديماً من الزبائن وحصل زيادة في كمية الذهب عندهم فإنهم يبيعون الفائض إلى تجار الجملة، ويسمى الذهب المستخدم في المصاغ القديم الذهب الكسر "لا يحمل أي قيمة شغل مصاغ". ويكون دور تجار الذهب بالجملة هو بيع الذهب الكسر أو شراؤه ويفرق عادة سعر البيع والشراء 5000 ليرة سورية يتقاضاها تاجر الجملة على الكيلو.
لا يقتصر المتعاملون في سوق الذهب على الصياغ وتجار الذهب الجملة بل يشترك معهم بعض المستثمرين وهم على نوعين. الأول مضارب يشتري ويبيع بشكل متكرر على أمل أن يستفيد من تذبذبات الأسعار العالمية. أما النوع الثاني فهم ما يعرف بلغة السوق بالخزّينة "الذين يخزّنون الذهب" وهم يتألفون من صغار المستثمرين "نصف إلى كغ واحد" أو كبار المستثمرين وهؤلاء يشترون الذهب حين يرونه رخيصاً وينامون عليه بانتظار ارتفاع سعره ويبيعونه. وغالباً ما يؤدي دخولهم المتزامن في السوق إلى حصول فائض أو ندرة في الذهب.
أما الذهب الموجود في الأسواق فإضافة إلى الذهب الكسر عيار 21 و18 هناك سبائك الكيلو "وهي ممنوعة قانوناً"، وهناك ذهب الرملة وهو ذهب سبائك بعد خضوعه لعملية ميكانيكية تسمى السحب وتصبح على شكل صفيحة رقيقة طويلة يمكن قصها حسب الوزن المطلوب. وهناك ذهب الليرات الإنجليزية المصنعة غالباً محلياً ومنها عليها دمغات "موقف القانون منها غير واضح".
ومن الجدير بالذكر أن القانون يعتبر شراء الذهب الكسر من غير الصياغ غير قانوني.
يخضع سعر الذهب الكسر إلى تسعيرة الجمعية، وبيّنا في أعلى المقالة أن سياسة الجمعية بتسعير الذهب في السنوات الماضية بأدنى من السعر العالمي ومن الدول المجاورة أدّت إلى خروج الذهب بشكل كثيف إلى خارج سورية. وربما يظن البعض أن تجار الذهب يبيعون وفق سعر السوق دون الأخذ بسعر الجمعية وهذا غير صحيح. فحين يكون سعر الذهب عالمياً مثلاً 1179 دولاراً للأونصة وكانت تسعيرة الجمعية 1505 ليرات للغرام "بينما كان السعر العالمي 1532" فإن تجّار الجملة يتخذون من سعر 1505مرجعاً، فإذا ارتفع السعر العالمي 5 دولارات يزيد السعر فوق 1505 بما يعادل 5 دولارات وإذا نقص عالمياً ينقص بالمقدار نفسه أي أن ضابط إيقاع الأسعار هو السعر الذي تحدده الجمعية.
أما الذهب السبائك فيكون سعره أعلى من سعر دول الجوار بما يعادل 10 آلاف ليرة للكيلو بسبب كلفة التهريب. أما إذا أريد استيراده بطريقة نظامية فعليه ضريبة مرتفعة.
لتنظيم سوق الذهب يجب أن تلجأ جهة رسمية إلى مراقبة سعر الذهب والمساهمة في وضع سعر حقيقي له يعكس واقع الدولار مقابل الليرة والذهب مقابل الدولار.
يمكن للبنك المركزي أن يطور وسيلة للاستثمار بالذهب مثل صك قطع ذهبية بأوزان 5 غرامات و10 غرامات و50 غراماً تحمل شكلاً مقبولاً جمالياً "يمكن بعد ذلك الاستغناء عن الليرات الإنكليزية المصنعة محلياً سواء للزينة أو الاستثمار، فما معنى أن تعلق نساءنا صورة ملكة أجنبية" ويمكن أن يكون سعر صك مثل هذه القطع أرخص من سعر صك الليرة الإنكليزية بشكل غير احترافي محلياً والتي تم الكشف عن الكثير من الغش فيها. وبذلك يتمكن المواطن أن يتابع سعر هذه القطع بشكل عادل ويشتري من يريد الاستثمار من البنك مباشرة أو من الصيرفة كما هي الحال في البلدان المجاورة ويكون سعر الشراء محتسباً معه سعر الصك وحين يبيع القطع يخصم سعر الصك.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الحلول أفضل أو بقاء الحال كما هي عليه وخروج على أقل تقدير 150 طن من الذهب إلى خارج سورية في الخمسة الأعوام المنصرمة؟