أبناء هذه السبيل، وتتميم ما لم يقولوا فيه قولاً تاماً على مجرى عادة اللسان وسنة الزمان، وبقدر طاقتنا، مع العلة العارضة لنا في ذلك من الانحصار إن الاتساع في القول المحلل لعقد العويص الملتبسة، توقياً سوء تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق: لضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الكل، الشاملة لهم، ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية والحاجب بسدف سجوفه أبصار فكرهم عن نور الحق ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية - التي قصروا عن نيلها وكانوا منها في الأطراف الشاسعة - لموضع الأعداء الحربية الواترة، ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً. لأنفي علم الأشياء بحقائقها الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه. واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة صلوات الله عليها إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده؛ وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها. فواجب إذن التمسك بهذه القنية النفيسة عند ذوي الحق، وأن نسعى في طلبها بغاية جهدنا لما قدمنا: ونحن قائلون الآن. وذلك باضطرار يجب على ألسنة المضادين لها اقتناؤها، وذلك أنهم لا يخلون من أن يقولوا إن إقتناءها يجب أو لا يجب، فإن قالوا إنه يجب وجب طلبها عليهم، وإن قالوا إنها لا تجب وجب عليهم أن يحصروا علة ذلك، وأن يعطوا على ذلك برهاناً، وإعطاء العلة والبرهان من قنية علم الأشياء بحقائقها. فواجب إذن طلب هذه القنية بألسنتهم، والتمسك بها اضطرار عليهم. فنحن نسأل المطلع على سرائرنا، والعالم اجتهادنا، في تثبيت الحجة على ربوبيته، وإيضاح وحدانيته، وذب المعادين له، والكافرين به عن ذلك بالحجج القامعة لكفرهم، والهاتكة لسجوف فضائحهم، والمخبرة عن عورات نحلهم المردية، وأن يحوطنا ومن سلك سبيلنا بحصن عزه الذي لا يرام، وأن يلبسنا سرابيل جنته الواقية، ويهب لنا نصرة غروب أسلحته النافذة والتأييد بعز قوته العالية حتى يبلغنا بذلك نهاية نيتنا من نصرة الحق وتأييد الصدق، ويبلغنا بذلك درجة من ارتضى نيته وقبل فعله، ووهب له الفلج والظفر على أضداده الكافرين نعمته، والعائدين عن سبيل الحق المرتضاة عنده. ولنكمل الآن هذا الفن بتأييد ولي الخيرات، وقابل الحسنات. الفن الثاني
وهو الجزء الأول في الفلسفة الأولى فإذا قدمنا ما يجب تقديمه في صدر كتابنا هذا، فلنتل ذلك بما يتلوه تلواً طبيعياً فنقول: إن الوجود الإنساني وجودان أحدهما أقرب منا وأبعد عند الطبيعة، وهو وجود الحواس التي هي لنا منذ بدء نشوئنا، وللجنس العام لنا، والكثير من غيرنا، أعني: الحي العام لجميع الحيوان. فإن وجودنا بالحواس - عند مباشرة الحس محسوسة - بلا زمان ولا مؤونة وهو غير ثابت لزوال ما يباشر، وسيلانه، وتبدله في كل حال بأحد أنواع الحركات، وتفاضل الكمية فيه بالأكثر والأقل، والتساوي وغير التساوي، وتغاير الكيفية فيه بالتشبيه وغير التشبيه، والأشد والأضعف. فهو الدهر في زوال دائم، وتبدل غير منفصل وهو الذي يثبت صوره في المصور فيؤديها للحفظ، فهو متمثل ومتصور في نفس الحي. فهو وإن كان لا مات له في الطبيعة فبعد عندها وخفي لذلك فهو قريب من الحاس جداً لوجدانه بالحس مع مباشرة الحس إياه. والمحسوس كله ذو هيولى أبداً، فالمحسوس أبداً جرم، وبالجرم والآخر أقرب من الطبيعة وأبعد عنا، وهو: وجود العقل. وبحق ما كان الوجود وجودان: وجود حسي، ووجود عقلي؛ إذ الأشياء كلية وجزئية: أعني بالكلي الأجناس للأنواع، والأنواع للأشخاص، وأعني بالجزئية الأشخاص للأنواع. والأشخاص الجزئية الهيولانية واقعة تحت الحواس؛ وأما الأجناس والأنواع فغير واقعة تحت الحواس، ولا موجودة وجوداً حسياً، بل تحت قوة من قوى النفس تامة أعني الإنسانية هي المسماة العقل الإنساني. وإذ الحواس واحدة الأشخاص، فكل متمثل في النفس من المحسوسات فهو للقوة المستعملة الحواس. فما كل معن نوعي، وما فوق النوع فليس متمثل للنفس - لأن المثل كلها محسوسة - بل مصدق في النفس، محقق متيقن بصدق الأوائل العقلية اضطراراً. بالهيولى هم غير صادقين في شيء بعينه ليس يعرى. فإن هذا وجود للنفس لا حسي، اضطراري، لا يحتاج إلى متوسط، وليس يتمثل لهذا مثال في النفس، لأنه لا مثال، لأنه لا لون، ولا صوت، ولا طعم، ولا رائحة، ولا ملموس، بل إدراك لا مثالي. وكل ما كان هيولانياً فإنه مثالي يمثله الحس الكلي في النفس. وكل ما هو لا هيولاني، وقد يوجد مع الهيولاني كالشكل الموجود باللون إذ هو نهاية اللون، فيعرض بالحس البصري أن يوجد الشكل إذ هو نهاية المدرك بالحس البصري. وقد نظن أنه يتمثل في النفس باجتلاب الحس الكلي له - ويمثله في نفس الإنسان لاحقة تلحق المثال اللوني كاللاحقة التي تلحق اللون، أنه نهاية الملون بوجود